أكثر ما كان جارحاً، في ردود الأفعال على المبادرة المصرية لإبرام هدنة؛ هو المواقف الكيدية بين محورين في الإقليم العربي. أحدهما يقول، إن المبادرة كافية شافية لحقن الدماء ووقف آلة الحرب، والثاني يقول إنها غير كافية ولم يتم التشاور حولها ولم يؤخذ رأي المقاومين فيها. والطرفان، بالطبع، مستريحان، ويريد واحدهما تسجيل النقاط على الآخر، في سياق سجال عام، يتعلق بتطورات السنوات الأخيرة في المشرق العربي.
موضع الألم هنا، في كون التخرصات تدور، وتتعارض المواقف، بينما الدم الفلسطيني ينزف والعمائر تُقصف وكثيرها يُقصف ويُدمر على رؤوس ساكنيه. أما العدو الذي لم تفلح قبته الحديدية، ولم يستطع ضبط منصات الإطلاق في لحظات الإطلاق؛ فإنه يدك قباب الدور الفلسطينية الاسمنتية غيظاً من فشل قبته الحديدية، ويدك الأسر الفلسطينية التي انجبت المقاومين، في واحد من فصول الأعمال الخسيسة والجبانة، التي تُسجل في تاريخ المشروع الصهيوني الاستعماري الهمجي!
كنا نتمنى، لو أن محور الخلاف العربي حول المبادرة المصرية، كان يدور حول خرائط العمليات وعلى خطط التحرك العسكري ضد هذا العدوان السافل، أو حول أيهما الذي سيُمنح شرف توفير المعدات الأحدث والأكثر، والألوية العسكرية النخبوية الأفضل تسليحاً. فكل هؤلاء الذين يتعاطون مع مبادرات الهدنة، على طرفي الخلاف، يمتلكون جيوشاً يقولون إنها جرارة ورادعة وماحقة، تجعلنا نرى في تقصير جانبي الخلاف وذرائعهما، ما يُخزي تاريخ هذه الأمة، لا سيما أن إسرائيل لم تكن تحتاج الى حرب فعلية، بقدر ما تحتاج الى رؤية العين الحمراء، ونتنياهو تحديداً أجبن من أن يفتح أزمة إقليمية.
الطرف الذي يشجع "حماس" و"الجهاد" على رفض المبادرة المصرية، لا يشحذ سكيناً، بينما أصغر الدول من هذا الطرف، تبتاع أحدث أسلحة الجو والبر والبحر، وأكبرها من ذوي الجيوش الجرارة وأحدها أطلسي. أما المتحمسون للمبادرة المصرية، فإنهم غير معنيين بعنصر النقص فيها. لو أن فيها نقطة عاجلة تتحدث عن آليات رفع الحصار مع وقف النار، واطلاق المعتقلين من الضفة، واستدعاء لجنة دولية لحصر المدنيين الأبرياء الذين قتلوا وتقديم التعويضات لذويهم ولمن دمرت بيوتهم ظلما؛ لقلنا إن المبادرة تنم عن ثقل المتقدمين بها وعن جدارتهم في الدور الذي يليق ببلدهم. أما القول بأن وقف الحرب يكون بالتهدئة مقابل التهدئة، فهذا معيب، ويتجاهل أن المحتل هو المعتدي، بل إنه هو الذي يمثل منظومة اعتداءات وجرائم وسفالات في كل ثانية.
هناك، في المبادرة المصرية، من يمكن أن يوحي بفتح المجال لتحقيق نقاط إيجابية للطرف الفلسطيني من خلال مباحثات غير مباشرة. هنا نؤكد أن نتنياهو وحكومته ينتحرون إن وجدوا أنفسهم مضطرين لأن يصدقوا. فلا عهد لهم ولا ميثاق. إن لم تكن المسائل مطروحة كنقاط ملزمة، فلا تحاكم النصوص إلا وفق الملزم والمحدد منها.
نحن في هذا السياق، لا نذم أحداً بقدر ما نؤكد أن الأطراف العربية والإقليمية كلها قد تركت غزة تنزف. وأن أداء هذه الأنظمة، حيال حروب إسرائيل الهمجية على شعب فلسطين، لن يكون مبعث فخر لشعوبها حاضراً ومستقبلاً!