خاص- مجلة القدس/ تاريخيا تعاني منطقتنا من انقسامات طائفية ومذهبية، تعلو وتيرتها وتخف تبعاًلحيوية الواقع ودينامية القوى الأكثر تأثيراً فيها.

ولم تكن الانقساماتمشبعة بأيديولوجيا ثقافية عميقة، إنما بشح في الثقافة ونقص في  موارد المعرفة، كأن غالبية شعوبنا كانت ولم تزلتتحرك وفقاً لمسارات السياسة، وعلى أساس أن الاستجابة تتم للمسار الأكثر غلوا وتشدداً.

لكن التحولات البنيويةعلى مستوى المرجعيات الاقتصادية والدينية في المنطقة سرّعت حالة الفرز وأعادت خلط مفاهيمواعتبارات وفقاً لخارطة التجاذب بين المرجعيات المستحدثة.

فالأزهر مثلاً،يشكل مركز الثقل الديني الذي كان يوازي ثقل مصر في العالم العربي أولاً والإسلامي استطراداً.وقوة مصر السياسية كانت من القوة بحيث نجحت في ضبط المرجعية إلى المستوى الذي يتقاطعمع الأنماط الفكرية والروحية، بحيث نجح الأزهر وبامتياز في الحفاظ على المؤسسة بعيداًعن الحركات الدينية وعصبية المنخرطين في أطرها وحلقاتها.

لم تهتز مكانةالمرجعية الدينية للأزهر حتى عام 1977، حيث أصيب مركز الثقل السياسي المصري جراء تخليالقيادة المصرية عن الدور القيادي في المدى العربي. وكون شيخ الأزهر أفتى يومها لصالحرغبة النظام فإن هزة عميقة أصابت الثقة بمرجعيته وبالتالي اضمحلَّ دوره إلى الحد الذيأفسح في المجال أمام السعودية- الدولة الناهضة والنامية بالمقياسين الاقتصادي والديني.حيث نجحت في اقتناص الجزء الأكبر من حصة مصر من المرجعية.

بالمقابل نجحتالمرجعية الإيرانية منذ الثورة عام 1979 في انتزاع حصة كبيرة من مرجعية النجف، وذلكبفعل السطوع السياسي للنجم الإيراني.

خلال تلك الحقبةوما تلاها تعمق الفرز السياسي الذي ارتبط بمجريات صراع لم تكن الحرب في العراق سببهالوحيد، إنما أيضاً بسبب سياسة تصدير الثورة التي اعتمدتها الجمهورية الإسلامية والحساسيةالتاريخية التي صبغت مسار العلاقات العربية- الفارسية.

بالطبع، محاولاتإيران تزعم حركة المواجهة مع إسرائيل ودأبها على رفع الشعارات الثورية ضدها لم يترجمعن الآخرين بغير السعي الإيراني للتغلغل في الشرايين السياسية للمنطقة ما يشكل استعادةمختلفة للروح الإمبراطورية التي امتلكتها إيران ومن خلالها مارست هيمنة لم تتوقف عنداحتلالها أجزاء من جنوبي العراق وهيمنتها على الخليج- معابره ومضائقه وصولاً إلى احتلالهاالجزر الإماراتية العربية الثلاث مطلع سبعينيات القرن الماضي.

إيقاع العلاقاتالإيرانية- العربية الساخن جنح باتجاه ربط السياسي بالمذهبي والعكس صحيح فعمَّق أسبابالصراعات التاريخية بسبب إضافي وقع على منطقة هشة الثقافة تكاد تنعدم فيها الأصواتالمعتدلة والمتنورة وتلك التي تضيء على الأسباب وتصوب مسار التناقض إلى مستوى البحثالمشترك بين القوميتين وبالتالي تصميم العلاقات الثنائية بناء على الأولويات الايجابيةلا السلبية.

ما سبق لا يعنيتجريد الأسباب عن سياق طفرة العصبيات والتشدد الديني والقومي في العالم. حتى أن أوروباالتي بنت علمانيتها وديمقراطيتها على أنقاض سمعة الكنيسة السيئة لم تسلم من ذلك.

فالاستطلاعات والدراساتتوصلت إلى تلك الخاصة، مضيفة إليها طغيان الأفكار الإيديولوجية- بالمعنى البدائي للكلمة-مع كل ما يتبع ذلك من استحضار لمواقف وسياسات وسلوك تتعمد استنهاض أيديولوجيات مقابلةتشبهها وتتناغم بالاصطدام معها- إسرائيل والولايات المتحدة- كمثل- لتبرير التحلل الأخلاقيوالقيمي لديهما مما يؤدي إلى تكامل في المشهد الدرامي من الصراع بمسمى جديد لقضاياقديمة، مشهد يرتبط أولاً بتقدير الذات ونبذ الآخر.

في المقلب الآخرمن واقعنا نشهد في الطائفة الواحدة والمذهب الواحد حالات تفلت وتمرد تصل الحد الأقصىمن التطرف، بانية خطابها على فكرة الأصول انطلاقاً من سياسة تتخذ من القرآن والسنةالنبوية منهجاً ومساراً- بالطبع كما تدعي، بالطبع الأصول التي لا ترعوي عن أي فعل.

للأسف لا تبتعدتلك المظاهر كثيراً- وإن اختلفت في الحيثيات والأسباب والأهداف عن أنظمة وقوى سياسيةقومية كانت ولم تزل في المنطقة والعالم.

كأن لسان واقعحال هؤلاء يفرط في الدونية والعجز إلى حد اليأس من إمكانية اللحاق بركب التطور والنموالعالميين، وبأن الحاضر من الإمكانات عاجز عن إحداث التغيير الذي ترجوه دون العنف الدمويالذي تتوزع عبواته البشرية الناسفة على كل من لا ينتمي إلى عالمهم.