خاص- مجلة القدس

تطرق كثيرون الىشعر محمود درويش بالدراسة من زوايا متعددة، وأشاد جميعهم بموهبته الخلاقة كشاعر عفويحذِق شديد التطلب متفوّق، فطرائق التعبير عنده تتمتع بصفاء الموهبة وقدرة فائقة علىالتحكم باللغة وتطويعها، ومجانستها في السياق العام لمصلحة المضامين واحتوائها علىحداثية غنية بفنيّتها ورشاقتها، وهو بذلك سيّد الكلام بلا منازع. وهو عفوي مفطور علىالكتابة وتمام العبارة والعفوية. عبارته كائن مكتمل الهيئة. تعدّت شهرته العالم العربيالى العالمية، وأسس شعره للقضية الفلسطينية واقعاً مهماً ومحترماً ، فارتبطت اعمالهبهذه القضية ارتباطاً وثيقاً حتى صارا ركناً فذاً في عالم الشعر والادب.

 

نثرهليس أقل شأناً من شعره

 لم يقتصر انتاجه الأدبي والفكري على الشعر وحده،بل كان له كتابات مختلفة تتعلق بأمور جوهرية في قضايا ومسائل سياسة ووطنية ويومياتتضاهي في قوتها وغناها نتاجه الشعري وتحتل مكانة مرموقة في سجله الحافل بالعطاء الادبي،وله في هذا المجال مؤلفات نثرية عدة كذاكرة للنسيان، وفي حضرة الغياب، وأثر الفراشة،وعابرون في كلام عابر، تناول فيها قضايا الحياة والموت، وشكّل نثره خطاً ريادياً فيتناوله للموضوعات الانسانية والوجودية، وبأسلوب طيّع  وتلقائية تعبيرية وسردية مقتضبة تطابقت لغوياًَمع مقاصدها في التعبير عن هذه القضايا بكل دقة. لذلك نجد في نثره قوة وغنى وومضات وايحاءاترمزية تجعل من هذا النثر وكأنه من سلالة شعره. فدرويش من الكتاب الذين استطابوا التعبيرالحسن، شعراً كان أم نثراً. فكأن الشعر والنثر عنده في منزلة واحدة لا يمكن فصلهمامادام الكلام بصورة مثلى، لذلك فهو يستطيب قول ابي حيان التوحيدي في الامتاع والمؤانسةالذي يقول فيه "أحسن الكلام ما ... قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثر كأنه نظم"فتستقيم العبارة عند درويش على اساس هذا المضمون. فنثره ليس اقل شأنا من شعره بحيثكتب في المقالة السياسية والنصوص الوجدانية والقضايا الوطنية واليوميات، وظلّت شعريةالكلمة عنده في هذه الموضوعات ذات أثر ونزعة فطرية تلقائية تعبّر عن حالة الانسان وسيرورته،وما يقلقه ويقضّ مضجعه. فالكتابة عنده تستحق هذا المجهود من الكفاءة العالية للوصولالى المولود الجديد الذي يحمل في طياته النزعات الانسانية، وهو بهذا اصبح رائداً كبيراًكغيره من رواد الفكر الانساني والادب والشعر، أمثال جان جاك روسو وبودلير وت.إس.اليوتوديوجين من عباقرة التراث الادبي الانساني الذين رفعوا مكانة اوروبا وروسيا في الادب،وكان لهم اسهامات فاعلة في عصر التنوير الاوروبي، وكذلك لا يقل محمود درويش عن هؤلاء،فقد نهض  بقيمة الفكر والثقافة والادب في العالمالعربي كما رفع من شأن القضية الفلسطينية من خلال كتاباته الشعرية والنثرية، الى المستوىالعالمي.

وفي هذا المجالتناول الكاتبان أمجد ناصر وصبحي حديدي كتابات محمود درويش النثرية وتطرقا الى مدى الشعريةفي هذه الكتابات بدون ان يتوسعا في النواحي الفنية التعبيرية والحداثية في اسلوبه النثري،وتم مقاربة هذا الموضوع من الناحية الشكلية دون الغوص في اسس هذه الكتابة، وفي الحقيقةان محمود درويش رفع من مكانة النثر، وجعله في مصاف الشعر من حيث الدور والاهداف والمضمون،وعبّر بنثره عن القضايا المطروحة، متخذاً منها مواقف جوهرية، باسالوب يحاكي الشعر فيمنسوبه الترميزي، مستشعراً القضايا الوطنية والاجتماعية والانسانية ومدافعاً عنها،متخذا الحرية السياسية والفكرية والديمقراطية منبراً له للتعبير عن أرائه.

 

خصائصنثره ومقاصد شعره

 فنصوص درويش النثرية اخذت مكانتها وقوتها من قدرتهعلى صوغ العبارة النثرية بلغة شعرية شفافة كما لو انها الشعر في المكانة مع اقتصادفي حبك العبارة، وعمق المعنى، والدلالات اللفظية. يقول في (عابرون في كلام عابر):"على حجر.. وبالحجر، يرفع الفلسطينيون المحاصرون سماء جديدة لأحلامنا يعيدون اليناالارض الهاربة من اقدامنا ويكتبون، كما لم تكتب الكتابة ابداً، سيرة البشر على حجر،منذ قُدِّر للمعجزة الانسانية ان تَقُدَّ كيانها من جديد، من لحمنا وعظمنا". الفكرة،والخطاب السياسي، يحملان عمقاً بعيداً عن المباشرة إذ هناك قوة من الرمزية والتحكمباسرار اللغة وطريقة نسجها شيء مختلف، إذ تلبس عبارته لبوس  القضية والمعاناة مع تعلقها باسرار اللغة التي تمتازبنكهتها الخاصة عنده والتي تتجلى في التعبير عن معجزة الانسان الفلسطيني، وصموده على أرضه رغم محاولات الاقتلاع بقوة المجنزرةوالدبابة والبندقية، حتى أصبح للحجر حالة معينة. فهو وسيلة الفلسطيني وسلاحه في مقارعةالمحتل في الطريق لاعادة صياغة جديدة للمعجزة الانسانية، بين الظالم والمظلوم، بينالقاتل والمقتول. فخطابه السياسي والانساني يفوق التوصيف والمدلول المباشر ويغوص فيالعمق والدلالات المعنوية وتذوق الرموز باسلوب راقٍ.

 

النص عند درويشمحمل بقصيدة، محمل بشعر، نصوصه كالمراكب الشراعية الطافية على وجه الماء، يعلو بالفكرةوالمعنى ودلالات اللغة والالفاظ. يقول في ذات المصدر (عابرون في كلام عابر):"وهم يأتون الينا منا! وهم يأخدوننا اليهم. ويطلعون في كل نداء ومن كل حرف. ولايبدأون السير من الصفر. ومن هنا يطلعون ومن هناك . من لا هنا. من لا هناك. من الواضحومن الغامض. من الداخل ومن الخارج. ومن الداخل المتوغّل في الداخل. من غزة ومن شاتيلا.من سفينة ومن خيمة. ومن بر ومن بحر. من كلمة ومن رصاصة. من هواء ومن ماء مصادرين. منجفاف حر واختناق مباح. من كتاب ومن تراب من مدّ ومن جزر". جمله تمثل حلقات فيسلسلة شعرية مقفلة على ذاتها مفتوحة على الاتجاهات كافة، تختم ما قبلها وتفتح فضاءلما بعدها، فهذه العبارات الشعرية تتحوّل في لحظة تعمّق الى نهر متدفق بتفسيرات تتعدىالإماءات السياسية الى قضايا انسانية.

 

العبوربالنثر الى مفاتن اللغة

 استطاع درويش ان يرفع من مكانة النّص النثري لهكذاتعبيرات الى مستوى الشعر حتى لا يكون هناك فرق بين ما هو نثر وما هو شعر طالما ان الاثنينيتضمان جودة التعبير وغناه وقوته ومكانته ودقة بلاغته. يقول في نفس المصدر (عابرونفي كلام عابر) عن العدو" لعلهم في حاجة الى المزيد من الظلام ليسفكوا المزيد منالدم..." ويقول ايضاً "ليس من حق اية ضحية ان تكون ضحية إلاّ اذا كانت ضحيةيهودية" في اشارة الى استغلال قضية المحرقة واستدرار العطف واستغلال الرأي العامالعالمي الى جانب هذه المسألة لارتكاب ابشع المجازر بحق الشعب الفلسطيني، وقلب الصورةوالتعمية على حقيقة ما يفعلون والادّعاء بأنهم ابرياء ومعتدى عليهم، وليسوا معتدينبحكم المواقف المتعاطفة معهم من قبل الغرب! فدرويش يكشف الفكر العنصري عند المحتليناليهود لأرض فلسطين، ويكشف زيف ادّعائهم القيام بدور الضحية، فيما هم في حقيقة الامرقتلة ومجرمون. فعمليات قتل الآخر لديهم مبرّرة، ولا يمكن ان يكون المقتول في نظرهمضحية برغم فعل الاعتداء عليه؟! والسبب لأنه ليس يهودياً؟! بينما هم ضحايا مع قيامهمبسفك دم الآخرين في الظلام والعلن، وقد جيّشوا الإعلام  لإخفاء جرائمهم وإظهار براءتهم وتبرير افعالهم الاجرامية،وسخّروا هذا الاعلام واستثمروه الى ابعد الحدود، وقلبوا الحقائق، واستخدموا كل اساليبالخداع والكذب والنفاق للتسويق لصورة اليهودي الضحية على حساب صاحب الارض والحق، وشوّهواالضمير الانساني وجعلوه قاصراً عن إبراز الحقيقة، وما تقدمه "الكاميرا".يقول درويش بصدق وعفوية نثرية اقرب ما تكون الى الشعر، "كانت الكاميرا هي الشاهد،هي الشاهد المحايد، هذه الكاميرا ذاتها كانت قبل قليل سلاح الاسرائيلي في معركة تسويقالدموع الاسرائيلية الى الضمير الانساني، مع برتقال يافا وأفوكا الكرمل". فالاسرائيلييقوم بتصدير فاكهة أرض فلسطين التي احتلها، ويستفيد من خيراتها على مرأى من الفلسطينيصاحب الرزق مع جرعة تضليل لممارساته الاجرامية بحق شعبنا، فدرويش يتناول احد اهم وسائلالصراع مع العدو، وهو الاعلام ويرمز اليه بالكاميرا، لانها العين اللاقطة للصورة علىأرض الواقع، والخبث يكمن في كيفية التقاط الصورة وتسويقها والاستفادة منها واستخدامالمنابر الاعلامية وتسخيرها لخدمة مآرب العدو الشيطانية. فالشاعر يفضح الواقع المأساويلما تقوم به الكاميرا من تضليل واستفزاز، ولما كان يجب ان تقوم به من دور حقيقي محايدفي اظهار الواقع المرير، لأن دورها الحقيقي يكون في صدقية التعاطي والكشف عن حقيقةالواقع، وليس تزييفه. يقول ايضاً في نفس المصدر:" الكاميرا هي مساحة الفارق الحضاريبين بيت في كيبوتس يربي البط والتفاح... وبين بيت من صفيح في مخيم. في البيت الأولطفلة نظيفة تلعب بمفاتيح البيانو . وأب يقرأ .. "تاجر البندقية". باشمئزاز.وأم تصفف الزهور على الطريقة اليابانية. وفي البيت الثاني طفلة تلعب بالقمامة. وأبيسرد تاريخ الخرافة.وأم تقشر البصل وتغسل الثياب في جردل ماء واحد". فالتمييزالطبقي جليّ بين حياتين وفي هذا عنصرية واستعلاء لا يمكن ان تصمد امامها كل تبريراتالعدو. فإذا كانت انسانية الانسان الفلسطيني منتهكة على كل المستويات فلا مبرر"لعقدة الذنب" التي يعيشها الغربي تجاه اليهودي، لان هذا اليهودي يمارس بحقالفلسطيني ابشع انواع الاضطهاد ويقوم باستغلال هذا الموقف في التحريض عليه وسفك دمهويدّعي البراءة، فيما يداه ملطختان وتنضحان بالدم. لذلك لا يمكن لعقدة الذنب هذه انتبرر الممارسات السيئة التي يقوم بها هذا اليهودي بحق الفلسطيني. يقول شاعرنا عن هذهالمسألة: ان "عقدة الذنب" هي محك انسانية الانسان في علاقته باليهودي. ولكنماذا لو كان اليهودي هو المذنب على ارض فلسطين؟ هذا سؤال ممنوع من التداول." إذلا يمكن ان يكون اليهودي مذنباً في العقيدة الصهيونية والتي اقتنع بها الغربي! فالصهيونيةلحست عقل الغربي في مسألة "عقدة الذنب" حتى ان البعض استسهل قتل الفلسطينيعلى اساس الهوية ولون البشرة والنطق، وأصبحت المخيمات مكاناً لقذفها بشتى انواع الاسلحةالحربية والسياسية والعنصرية.

 

محموددرويش سطور للحياة

 فالنّص النثري عند شاعرنا يغطي مساحات لم يتطرق اليهابشعره مع ما له من مذاق شعري وزخم في الاداء والتعبير، فكأن النص النثري عنده قصيدةتحللت من كل إزار، وأرخت شعرها، وانسابت بخفة وعفوية بخطى وئيدة على فراش وثير. يقولفي نفس المصدر: "تمرّ تقارير الموت اليومي، الموت الجماعي، مع فناجين القهوة العربيةدون ان تصرف أحدا عن شؤونه الخاصة والعامة؟" ففي اي معيار يمكن ان نضع ما يحلّبالفلسطيني على يد الشقيق من قتل وظلم وحصار، وكأن هذا الشيء مسألة سهلة بالنسبة لهذاالعربي الذي لا تستثيره هذه المسألة البتة، ولا تصرفه عن لذة قرقعة فناجين القهوة وممارسةشؤونه ويومياته بدون اكثراث، ولا تستأهل منه ان يعرف ما يدور بحق المخيمات المحاصرةاصلاً بحدود تزنّرها من جميع الجهات! فشاعرنا يرفع من قيمة النّص والمضمون واللغة الىرؤية سياسية ثاقبة، إذ إن المدن العربية ليست بمنأى عما اصاب المخيمات يقول في نفسالمصدر: " شاتيلا قريبة من البصرة. والبصرة بعيدة عن دمشق. كل شيء بعيد عما هوقريب منه. وكل شيء قريب مما هو بعيد عنه. اختلاط شخوص. اختراق مسرح. مشهد انفجار كونييفتقد الى الاثارة". ها هو المسرح ينفجر الآن في كل مكان، وهذا ليس تشفياً ولاشماتة، لأن من سمح لألسنة اللهب ان تدخل الى المخيم خرجت له هذه الألسنة في عقر داره،والنار تحرق في كل الاحوال؟! يقول شاعرنا في نثره البليغ (نفس المصدر): " وإنتجريد الفلسطيني من اي مكان خارج مكانه، ومنعه من النشاط للعودة الى مكانه، هو شكلمن الاشكال الساطعة لإقصائه النهائي عن مكان لا دور له في الخطاب الزائف إلاّ خدمةفكرة عاطلة عن العمل في أحسن الاحوال، أو فكرة لا تعمل – اذا عملت – إلا لتعميق الهاويةبين المكان وصاحب المكان..."

فهذه من المنطلقاتالاستراتيجية في ممارسة الشعوب المقهورة والمضطهدة لحقها في التعبير وممارسة كل انواعالعمل السياسي والوطني بشكل ديمقراطي وبحرية تامة، حتى تستطيع تحقيق اهدافها بدون قيودوتكميم وعوائق، فالمنطلقات الفكرية والطرح السياسي الذي شرّعته كل القوانين الدوليةاساسيّ عند درويش، لأن للمكان قداسة عند الفلسطيني، فهو مرتبط بحق العودة، وهو ليسمكاناً للتجمع والركود فيه، وهو منطلق للدوافع السياسية والوطنية التي على اساسها ينطلقالانسان الفلسطيني من اجل تعرية هذا المكان، والكشف عن وجهه القبيح والمأساوي لقضيةانسان لحقت به أفدح أنواع المظالم لذلك فهو يتشبث به ليكون وصمة عار على جبين الانسانيةكمكان للجريمة الموصوفة التي حلت بهذا الشعب بفعل المؤامرة الدولية والعربية.

فالفلسطيني لايعتبر المخيم مكاناً دهرياً، انه مكان متحرك يحضن الرواية كلها وحكايات الألم وذكرياتالارض ومشاعر الشوق والحنين المعتمرة في الصدور والتي يتوارثها جيل عن جيل الى ان تحينالعودة الى ارض الوطن.

 

آفاقالتعبير ودقة التصوير في نثر محمود درويش

 يعتبر درويش كل من تجرأ على تفكيك الارتباط بين جوهرالقضية والمخيم هو كمن ينسف العلاقة بين الانسان وذاته، يقول في أثر الفراشة:" لكنّ القتلى هم الذين يتجدّدون. يولدون كل يوم. وحين يحاولون النوم يأخذهم القتلمن نعاسهم الى نوم بلا احلام. لا قيمة للعدد". ما هو القتل؟ ومن هو المقتول؟ لافرق بين يد باطشة تقتل بدون وازع من ضمير ومساءلة وبين قوانين عاجزة لا تعدو عن كونهاسطورفي ورق الدساتير بينما القتيل لا يجد متسعاً لنعاس يغفو على موت ليس فيه احلاموقد صار شيئاً من اليوميات العادية والمستهلكة التي لا تثير وخزة مشاعر، وصار القتيلمحاصراً من كل الجهات. فالعبارات المستخدمة في هذه الحالة عند درويش مشفّرة لا يشعربها الا كل صاحب هوى تغريه القضايا الانسانية وعلى رأسها قضية فلسطين العادلة. يقولفي (نفس المصدر) " انا المحاصر من البر والجو والبحر واللغة. " وهل أبلغمن هذه اللغة الجامعة المانعة لتوصيف واقع الفلسطيني وقد وضعت امامه السدود، وسدّتالمنافذ حتى على صعيد اللغة والتعبير والتنفس! فليسعف النطق ان لم يسعف الحال؟! وهذااقل الايمان بينما في الجهة المقابلة نرى المحاذير حتى في توصيف العدو هل هو اسرائيليام يهودي ام صهيوني خشية اغضابه واغضاب سدنته بينما هو يقوم بفعل العدوان بوصفه يحملكل هذه التسميات والتحليلات النيومنطقية فدرويش الصق به اسماً وحيداً وتخلص من هذهالاعباء وهو اسم يليق به مهما كانت تسمياته او عقيدته او سياسته، وهذا الاسم هو مناختياره هو - اي العدو - لانه هو من اطلق على نفسه هذا التوصيف نظراً لممارساته واجرامهيقول عنه درويش في نفس المصدر "هو الذي اختار ان يكون له اسم وحيد: "العدو"!وهو موجود هنا وهناك وفي كل مكان وكل وقت لا يتأخر عن اضرام النار واشعال الحرائق فيكل اتجاه هو نيرون جديد، فإن لم يقم باستخدام قوته يقوم اذنابه بافتعالها فيما هو يتفرجعلى الحرائق. يقول في اثر الفراشة "ماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرج على حريقلبنان.. وهو يتفرج على حريق العراق... وهو يتفرج على حريق فلسطين...وهو يتفرج على حريقالعالم؟" فعبارته قُدت من قلب الحقيقة. في كتابه حيرة الغائب يقول " لا نريدان نكون ابطالا أكثر لا نريد ان نكون ضحايا أكثر، لا نريد أكثر من ان نكون بشراً عاديين"فهذا الكلام المنثور نثراً الشفاف الممتنع كأزهار تنبت بتلقائية وبساطة دون تدخل وتلاعبوتغيير في النمط الطبيعي لطبيعة الاسلوب وسياق العبارة، ما يدلل على فطرية الشاعر المطبوعةعلى التعابير الشعرية نثرا كانت ام شعرا، أما من حيث المعنى فهذا المطلب ليس مستحيلاًفي ان يكون الانسان انسانا كباقي البشر، وهذا حق طبيعي لكل انسان. ولكن لغة درويش ترنرناً وتجعلنا احيانا لا نميز بين ما هو شعر وما هو نثر لرّقة لغته والصقل المعبّر عنالحالة النفسية والفكرية التي يشعر بها الانسان الفلسطيني في ان يكون طبيعياً كغيره،لا ان يظلّ ضائعاً في غفلة من الزمن ولا يجد نفسه الا في قلب المأساة. يقول في نفسالمصدر: " كأنني لم انتبه إلاّ الآن الى ما فعل الزمن بي. اما كان في وسعه انيُعلِّمني الحكمة، كما علّمني التاريخ السخرية بثمن أقلّ من الرحيل؟" هكذا يغرسدرويش في قلب كل جملة علماً فلسطينياً ومأساة في ذات الوقت حتى تبقى هذه القضية تطاردنا"كعقدة الذنب" التي لا تنتهي الا بعودة الحق الى اصحابه، ألم يكن الرحيلشيئاً مميتاً لنا، ألم يكن الاجدر بالزمن ان يكون حكيماً أكثر.

 

مكانةدرويش وخلود كتاباته

 يحتاج المرء الى الكثير من الهدوء والتفكير للغوصفي هذه النصوص لاستكشاف الانماط الفكرية والفلسفية ومكنونات الرموز الشعرية المتلألئةفي هذه النصوص. يقول في نفس المصدر: " فإذا كان من الطبيعي ان تخشى الناس من الحروب،فإنه ليس مألوفاً ولا طبيعياً ان يتحدث احد عن خطر السلام" فلا غرابة في ان يكونالشاعر لسان الامة والناطق باسمها، ألم يكن الشاعر قديماً المتحدث الرسمي باسم القبيلةوالعشيرة، واليوم على المستوى الحضاري والتقدم ووسائل الاتصالات وغيرها من الاختراعاتوالابتكارات وجد الشاعر والكاتب نفسه امام التحدي الكبير في ان يظل وسط كل هذا الناطقالرسمي باسم امته وناسه. ألم يرفع محمود درويش بشعره ونثره القضية الفلسطينية الى مستوىالعالمية حتى ارتبط اسمها به، وارتبط اسمه بها أليس كل هذا عائداً الى المضامين الفكريةوالسياسية والانسانية ومبادئ الحرية والديمقراطية التي آمن بها وعبّر عنها في مجالاتعديدة بالقصائد والنصوص النثرية والمقالات وغيرها من الكتابات متقدماً على الكثيرينفي رؤاه السياسية بلغة مضبوطة ومشذّبة بعيداً عن الاسهاب والتطويل، وليأتي أخيراً مندعاة السياسة والنيومنطقيين ليقول لك في معرض تحليلاته ان ما أقوله ليس شعراً؟! وكأنالشعر او الكتابة قاصرة عن اللحاق بالفكر السياسي وقضايا الاوطان والتقدم فيما الحقيقةتثبت عكس ذلك، من خلال ما قدمه محمود درويش من كتابات خالدة.

محمـــد سعيـد