بقلم/ صقر أبو فخر

يوم الأرض هو نقطة تحوُّل حاسمة في الحياة السياسية لفلسطينيي 1948، وبداية تأسيسية للحركة الوطنية الفلسطينية الجديدة التي ورثت التاريخ النضالي لحركة الأرض وأبناء البلد وغيرهما من المنظمات الفلسطينية الأولى. وانفجر يوم الارض في 30/3/1976 بعد مسار طويل من النضال الدؤوب ضد العسف والإكراه والتمييز العنصري ومصادرة الأراضي، وبات نقطة وضاءة في التاريخ المعاصر للفلسطينيين الذين ظلوا في أرضهم منذ سنة 1948، والذين برهنوا، بسطوع باهر، وحدتهم التي لم تستطع السلطات الاسرائيلية تفكيكها طوال ثمانية وعشرين عاماً من القهر والتسلط ومحاولات التفتيت. أما السبب المباشر لهذه الانتفاضة فكان إعلان السلطات الاسرائيلية في 29/2/1976 أنها ستصادر 21 ألف دونم من الأراضي العربية في عرّابة وسخنين ودير حنا وعرب السواعد وغيرها من القرى العربية في الجليل والمثلت لإقامة مزيد من المستعمرات اليهودية عليها في نطاق خطة تهويد الجليل. والمعروف ان اسرائيل صادرت نحو مليون دونم من أراضي العرب في الجليل والمثلث بين 1948 و 1972، علاوة على ما صادرته من "أملاك الغائبين".

 

ما قبل الحدث

في أواخر سنة 1975 راحت الأخبار تتسرب الى الفاعليات الفلسطينية في مناطق 1948 عن خطة اسرائيلية لتهويد الجليل ومصادرة المزيد من الاراضي. فتداعى الفلسطينيون الى اجتماعات متلاحقة في حيفا والناصرة أدت الى تأليف "اللجنة القطرية للدفاع عن الاراضي العربية في 18/10/1975، وكان من بين أعضائها سالم جبران وعزمي بشارة (وكان آنذاك طالباً جامعياً) وسميح القاسم ووليد الفاهوم وتوفيق طوبي ونايف سليم. وفي 18/2/1976 صدرت وثيقة بعنوان "تطوير الجليل" أعدها خبير الاستيطان يسرائيل كيننغ، وهي تهدف الى جعل أغلبية سكان الجليل من اليهود. وفي تلك الفترة، وفي سياق هذه الخطة، قررت الحكومة الاسرائيلية مصادرة 17 ألف دونم من أراضي منطقة البطوف في الجليل، وإعلانها منطقة عسكرية مغلقة على الفلسطينيين، اضافة الى مساحة إضافية أخرى تقدر بخمسة آلاف دونم. وعند هذا الحد انتفض الفلسطينيون في الداخل للدفاع عن أراضيهم، وقرروا الاضراب العام في 30/3/1976. وقبيل موعد الاضراب عُقد اجتماع في شفا عمرو، وظهر فيه موقفان: الموقف الأول غبّر عنه الشاعر توفيق زيّاد رئيس بلدية الناصرة آنذاك، وكان يدعو الى إعلان الاضراب التام. أما الموقف الثاني فكان لا يرغب في الاضراب على الاطلاق. وفي نهاية المناقشات تبين ان الاغلبية مع اعلان الاضراب. لكن بعض عملاء الحكومة الاسرائيلية حاولوا الاعتداء على توفيق زيّاد، فهب الشبان للدفاع عنه، وجرى الاشتباك بالأيدي داخل مقر الاجتماع.

حاولت الحكومة الاسرائيلية، بجميع وسائل الترهيب والترغيب والخداع شق الاجماع العربي وكسر الاضراب، فأوعزت الى بعض المقربين منها من رؤساء المجالس المحلية بعقد احتماع في شفا عمرو في 25/3/1976، واتخذ هؤلاء قراراً بتأجيل الاضراب، لكن هذا الاجتماع تحول الى استهجان وسخرية في الوسط العربي. وأعلنت المؤسسات الاقتصادية الاسرائيلية في حيفا والناصرة العليا أنها ستُسرِّح العمال الذين يتغيبون عن أعمالهم في الثلاثين من آذار 1976 من دون تعويضات ورفضت المؤسسات الاسرائيلية التي تستخدم عرباً إعطاء إجازات للعمال العرب في ذلك اليوم. وحذرت مؤسسات الهستدروت من أنها لن تقدم الحماية القانونية لأي عامل عربي يتعرض للمساءلة المهنية جراء تغيبه عن العمل.

 

الإضراب الكبير

لم تفلح هذه الاجراءات في ثني الفلسطينيين عن المضي بقوة نحو الاضراب العام، فانتقل وزير الشرطة الاسرائيلية الى الناصرة في 29/3/1976 وجند قوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود والجيش وحشدها في القرى العربية لكسر الاضراب وقمع المتظاهرين وتحطيم ارادة الصمود. واتخذت السلطات الاسرائيلية من حادثة شفاعمرو ذريعة أمنية فقامت بإنزال قوات عسكرية في منطقة البطوف بقيادة رفائيل إيتان الذي صار رئيساً للأركان في ما بعد، والذي قاد عمليات الحرب على لبنان في سنة 1982. وفي اليوم المحدد للاضراب اشتعلت قرى الجليل والمثلث بالتظاهرات، وعمت المسيرات الاحتجاجية عرابة وسخنين وأم الفحم ودير حنا ودالية الكرمل وعسفيا وحرفيش ومعليا والناصرة وغيرها، فاقتحمت قوات الجيش الاسرائيلي هذه القرى كلها وقد تمكن الشبان من أبناء عرّابة من محاصرة إحدى الدبابات الاسرائيلية، الأمر الذي اضطر رفائيل إيتان الى طلب المعونة من رئيس بلدية عرّابة لاطلاق سراح الدبابة وطاقمها. فاشترط عليه رئيس البلدية سحب قواته من القرية. وهذا ما وقع بالفعل، واحتفل شبان القرية بالنصر.

لكن إيتان، بعدما استعاد الدبابة، أمر جنوده باطلاق النار على الشبان المحتفلين، فسقط خير محمد ياسين وجرح ثمانية آخرون. وتكرر الأمر نفسه في قرى أخرى، وكانت النتيجة سقوط ستة شهداء و 49 جريحاً، عدا عن نحو 300 معتقل. أما الشهداء فهم: خديجة قاسم الشواهنة ورجا أبو ريا وخضر خلايلة (من سخنين)، وخير ياسين(من عرابة)، ومحسن طه(من كفركنا) ورأفت زهيري (من الطيبة). لكن هذا الاضراب الدامي أرغم السلطة الاسرائيلية على التراجع الجزئي عن مصادرة الاراضي، فاضطرت الى اعادة بعضها الى البلدات العربية. غير أن الأثر الأكثر أهمية الذي تركه "يوم الأرض" هو أن الفلسطينيين تحولوا، جراء ذلك، من جماعات ضعيفة ومتفرقة، الى جماعة تعتد بنفسها، وتكافح في سبيل حقوقها. وكان هذ اليوم يوماً تأسيسياً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل، والمدماك الاساس الذي قامت عليه معظم النضالات العربية اللاحقة.