غادة أسعد/ شفا عمرو

كُتِبت في حُبها القصائِد، وتغنّى بها المغنون، جاءَها الفنانون بحثًا عن المجدِ والتاريخِ والعظمة، يافا، طعمُ البرتقالِ الشَّهي، وامتدادُ حقولِ الخُضار والفاكهة، يافا، لونُ الزُرقة، في بحرِها الذي روى عطش اليافاويين، وسقاهم، يومَ كانَ كُل شيءٍ بكثرة.

أمَّا اليوم فتطلُّ عدة تساؤلاتٍ صباحَ كُلِ يومٍ، على أهلِ يافا، وكِبارها خصوصًا، أولئك الذين لم يبقَ مِنهم كُثُر، أما زالت يافا جنة على الأرضِ؟ أم أنها أصبحت نعيمًا أهلكهُ الانتدابُ والاحتلالُ والغدرُ؟!

 

يافا: الصناعة والتجارة والسياحة

يقول الباحث والـمُرشد السياحي اليافاوي سامي أبو شحادة: "يافا كانت أكبر المدن العربية الفلسطينية الانتدابية من الناحية الديموغرافية، حيثُ بلغ عدد سكان المدينة 80 ألفاً، وعدد سكان القرى القريبة التي اعتُبِرت ضمن قضائها ما يقارب 40 ألف نسمة. ولكن في الفترة ما بعد قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947، ونكبة فلسطين في 15/5/1948، طردت العصابات الصهيونية ما يزيد عن %95 من سكان مدينة يافا العرب أصحاب البلاد الأصليين، وهي ما زالت تمنع عودتهم حتى يومنا هذا، علمًا أن اليافاويين شكّلوا نحو %15 من اللاجئين الفلسطينيين، وهم اليوم منتشرون في كافة بقاع الأرض".

ويصف أبو شحادة يافا قبل النكبة حيثُ يقول: "كانت يافا، قلب فلسطين النابض من الناحية الاقتصادية منذ بدايات القرن التاسع عشر، ما وضعَها في مكانة مرموقة في السوق الاقتصادي العالمي. وكانت حقولها مزروعة ببيارات الحمضيات والبرتقال بالأساس، وتطور الحقل الاقتصادي، حتى صارت يافا تُصدِّر عشرات الملايين من صناديق الحمضيات في الثلاثينيات من القرن الماضي".

 

جولة في يافا "عروس البحر"

خلال مرافقتي لأبي شحادة، وقفنا في قلب مدينة يافا، عند دوار الساعة، ومن هناك نُطل على ميناء يافا، وهو أحد أهم الموانئ التجارية في منطقة الشرق الأوسط، قبل الاحتلال، وقربه كان مسجد يافا الكبير من أهم وأكبر المساجد في فلسطين كلها، ثم نأتي على مبنى السرايا الجديدة، الذي شهد أبشع مجزرة اقترفتها العصابات الصهيونية بحق الأطفال قبل العام 1948.

وعند المنشية كانت محطة أخرى، الحي الأكبر والأجمل قبل النكبة، الذي تمّ تدميره تمامًا، وبقي مسجد حسن بيك، وقد سكن الحي قبل وقوع النكبة، آلاف المواطنين، قبل طردهم من المنطقة الشمالية في يافا.

وفي مكانٍ كانَ نقطة انطلاق إلى العالم العربي، كانت هناك محطة لسكة الحديد التي أُنشئت في العام 1892، حيثُ توقَّف أبو شحادة ليقول: "أعادَنا الاحتلال الإسرائيلي إلى الخلف 150 سنة، أو أكثر، علمًا أنّ يافا كانت متطورة أكثر مِن اليوم، وهذا ما يؤكده توقُّف القطار الذي وصل يافا قبل النكبة بنحو مئة سنة".

ويضيف أبو شحادة: "تميّزت يافا، وتألّقت كمدينة فلسطينية، وعربية، ووصل عدد المستشفيات فيها قبل النكبة إلى 5 مستشفيات، وانتشرت فيها المدارس، والنوادي الرياضية، بل إن النساء حتى كُنَّ يمارسن رياضة التنس منذ الأربعينيات، وهو ما لا نحلُم به اليوم في يافا، كما تميَّزت بمؤسّساتها المختلفة وفنادقها وزائريها من كل الأقطار، غير أن أهل المدينة تحوَّلوا مِن أصحاب مصالح إلى فاقدي المصالح، وممنوعين من العمل في منشآتٍ كانت لنا".

 

الحركة الثقافية في يافا

يقول أبو شحادة: "كانت يافا من أهم المراكز الثقافية في فلسطين، واحتوت على أهمّ الصحف الفلسطينية اليوميّة- كـ"فلسطين" و"الدفاع" وعشرات الصُحف والمجلات ودُوْر الطبع والنشر ودُوْر السينما والمسارح التي تجاوز عددها العشرة، إضافًة إلى انتشار عشرات النوادي الثقافية، التي أصبح بعضها صرحا ثقافيًّا مهمًّا في تاريخ المدينة الحديث مثل النادي الأرثوذكسي والنادي الإسلامي. ونقل البريطانيون أيام الحرب العالمية الثانية محطة إذاعة الشرق الأدنى إلى يافا، ومثَّلت هذه المحطة أحد المراكز المهمة للحياة الثقافية بالمدينة ما بين عامَي 1941 و1948. وساهم هذا البُعد الثقافي في ربط يافا بالمراكز الثقافية العربية في حينه كالقاهرة وبيروت، وأصبحت إحدى منارات العلم في المنطقة".

 

نكبة يافا وضرورة الصمود

يشير أبو شحادة إلى أن مدينة يافا سقطت بيد العصابات الصهيونية في 14/5/1948، بعد مجازر بشعة، ومقاومة باسلة من أهلها، ويضيف "وبسبب المقاومة، جمعَت العصابات ما تبقّى من العرب في المدينة وقراها وزجوا بهم في حي "العجمي"، لمدة سنتين، وحاصروهم بالأسلاك الشائكة، وجاورهم اليهود والجنود وكلاب حراسة، وأطلقوا على الحي الـ"غيتو"، الأمر الذي أثارَ حفيظة اليهود الأوروبيين وذكَّرهم بالنازية، فقررت الحكومة، فك أسر أهالي حي العجمي، وإيقاف الحكم العسكري في العام 1950. وهكذا تمّ تغيير أسماء الشوارع، وطرد السكان، وإعادة عجلة الزمن إلى الوراء مئات السنين، وهكذا حُرم الفلسطيني من التواصل مع أهله في الدول العربية، باعتبارها "دولاً عدوةً".

ولم يتمكَّن الـ3 آلاف يافاوي، الذين بقوا في وطنهم من استعادة بيوتهم وأملاكهم، وهُجِّر نحو مئات الآلاف من سكان يافا، فظهرت يافا كمدينة شبه فارغة، إلا من ممتلكات أهلها وخيراتها التي نهبها الصهاينة. هذه الحال الصعبة، أدخلت الغالبية الساحقة من الرجال في حالة اكتئاب وألم شديدَين، أديا إلى تعاطي المخدرات بما في ذلك الأفيون والإدمان على الكحول.

ولكن المطلوب الآن من أهالي يافا هو الوحدة والصمود، والحفاظ على الهوية واللغة والبقاء، خاصةً أنّ وجود يافا في قلب المشروع الإسرائيلي في عُمق مدينة تل أبيب، يُساهِم في قلب المعادلة، ويقيم الوزن السياسي لأهالي المدينة، وهذا يتم من خلال أعمال التطوير التي يقوم بها أهل المدينة، من بناء مؤسسة وطنية ملتزمة، تدير شؤون عرب يافا، وتدعم المشاريع الحيوية، وتعزّز الحركة الوطنية، والثقافية والتعليمية.

 

تشويه الحيّز المديني: يافا كمثال!

تقول مخططة المدن د.هناء حمدان صليبا: "تعيش اليوم يافا- التي عُرِفت بأمجادها في الماضي- ضحيةً لمخططات الهدم ومحو معالم المدينة الفلسطينية، مثلها كمثل عكا وحيفا".

وتردف "مرّ الحيّز المديني الفلسطيني بتغييرات جذرية نتيجة لحرب 1948 وقيام دولة إسرائيل، بعد نكبةٍ سبّبت الخراب وهدمَ المدينة الفلسطينية، وأوقفت الحداثة. ونتيجة للنكبة خسرت الأقلية الفلسطينية النخبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وأُقصِيت إلى الهامش المديني. وهكذا أصبحت يافا - التي كانت توصف بـ"عروس فلسطين"- بعد العام 1948، حيّا مهملاً ومضطهدًا على هامش تل أبيب، بعد أن فُرّغت من معظم سكانها ومن مضمونها التاريخي والثقافي والاجتماعي والحيزي، وذلك بعد استعمال التخطيط المديني لتحقيق هدف سياسات مؤسّسات التخطيط بالسيطرة على المكان، لتغييره وتهويده لإيجاد حيّز مشوّه وغريب عن الواقع والتاريخ والذاكرة الفلسطينية".

وفي تلخيصها ترى د. هناء أنّ التخطيط الإسرائيلي أدى إلى فصل وإقصاء الأقلية الفلسطينية في يافا، وأوجد حيزًا مقلّصًا ومحدودًا، لا يكفي الاحتياجات اليومية والثقافية للسكان الأصليين.

 

عايش النكبة؛ فخري جداي، رمزٌ من رموز يافا!

أمَّا كِبار يافا، فلم يبقَ مِنهم كُثُر. آخرُ الأحباء في يافا، غادرَنا قبل بضعة أيام ورحَل، آخذًا معه، حب يافا، واعتزازه بها، هو الصيدلاني فخري جداي (أبو يوسف)، (1927-2014)، حمَلَ لقب "بوابة يافا"، وأحد الشخصيات اليافوية البارزة، ومن مؤسّسي حركة الأرض الفلسطينية. لُقِّب بـ"دكتور البلد"، بعد أن أُغلقت كافة المستشفيات وتمَّ تهجير كافة الأطباء من المدينة، فأصبح عنوانًا لكل من يحتاج التطبيب أو الدواء.

أخـيرًا، التقيته في بيته في يافا، مدينته التي جُبِلَ بحُبها، وما كان سهلاً لقائي به، وهو الذي باتَ مُنشغلاً عن اللقاءات الصحفية، بالبحثِ عن الهدوء والسكينة بعد أعوامٍ طوالٍ انشغلَ فيها بالقراءة والكتابةِ والاسترسال الصحافي وسرد روايته التي لا تنتهي عن يافا.

وبمجردِ الترحابِ الذي لمحته في عينيه، وبسمته والهدوء الذي يسكُنه، عرفتُ أنّه متشوقٌ للحديثِ مِن جديد عن "يافاه" "فمثلها – قال لي -لن تجدي في العالم العربي ولا حتى في الغربي".

انشغلتُ عن الدنيا، بالاستماعِ إلى حديث "أبو يوسف" عن يافا، وعن علاقته ببيروت وبمهنة الصيدلية، وبيْنَ الاستهجانِ والافتخارِ بماضٍ عريق، لمعت عينان دامعتان، فضحتا عشقه الكبير لمدينته.

 

بين يافا وبيروت!

اختارَ ابنُ التاسعة عشرَة فخري جداي، أن يتعلّم مهنة الصيدلة، متأثرًا بوالده يوسف كامل جداي "أبو حكمت"، الذي افتتحَ صيدلية في شارع يافا، أطلقَ عليها اسم "صيدلية الكمال"، ولاحقًا، افتتح صيدلية أخرى في المنشية بيافا، ظلّت تستقبل الزبائن حتى السنوات الأولى ما بعد النكبة، قبل أن يغلقها بسبب رداءة الأحوال التي واجهت فلسطينيي يافا.

أمّا فخري الذي سافَرَ بحقيبته في مطلع العام 1946 قاطعًا الطريق باتجاهِ بيروت، فاندمجَ في دراسته وكوّن صداقاتٍ مع فلسطينيين يافاويين وآخرين من البلاد، إضافة إلى صداقته مع اللبنانيين والسوريين وغيرهم من العرب.

وفي غِمرة انشغاله بدراسته، باغتته نكبة فلسطين في أيار عام 1948، فأغلقت الطرقات وتكسّرت سُبُل اللقاء ما بين الفلسطينيين الدارسين في لبنان وبين أهلهم في الداخل الفلسطيني، ما أصابه بالخوف والقلق على والديه وشقيقته، وبعد رفض شقيقته ووالدته ترك منزلهما في يافا والقدوم لبيروت، راسله والده أبو حكمت طالبًا إليه العودة إلى يافا بعد الموافقة على لمّ شمل العائلة ونجاحه، الوالد، بالحصول على إذنٍ بعودته إلى أحضان عائلته اليافاوية.

لكنّ فخري الذي عاد في 15/10/1950 بعد تخرّجه من كلية الصيدلة في بيروت، تاركًا وراءه عاصمة العواصم، بيروت، التي رأى فيها صورة مصغّرة ليافا، كان يتمنّى لو أنه أمضى كل مواسمِ الصيفِ تسفُّعًا تحت شمسها، بعد مشاهدته لتغيير ملامح يافا، التي صارَت بلدة موحِشة مُقفرة بفعل بطش الاحتلال.

حينها قرر العودة لبيروت، غير أنه لم يحتمل الحزن والدموع في عينَي والده، فعدل عن قراره واختارَ الاستقرار في يافا.

وعن عمله في يافا يضيف "انشغلتُ لاحقًا في عملي بالصيدلة، رغمَ تغُيُّر الأحوال في أيامِ حكم الإسرائيليين، إذ باتت شروط افتتاح صيدلية مسألة غير سهلة، والممنوعات أكثرُ مِن المسموحات، لكنّ ذكرياتٍ جميلة سافرت معي، طوال الأعوام التي مرّت، منذ النكبة وحتى اليوم، إذ كانت يافا قديمًا تعُجُ بالسكان وبالصيدليات، وكانت علاقة الصيادلة ممتازة، أما اليوم فلا علاقة تقريبًا بين أصحاب المهنةِ الواحدة".

وعلى نهج الوالد الذي زاولَ مهنة الصيدلية نحو 29 عامًا، سارَ فخري، حيثُ التزم برسالته الطبية، فكانَ حكيمًا يُداوي المرضى بَما يملك من خبرة المثقّف وصاحِب الدراية بالوصفات الطبيعية أيضًا، وبقي كذلك طيلة تجربة فاقت الستين عامًا.

 

يافا: أم الغريب!

"اليوم وبكرا وللأبد يافا هي جنتي، أجمل مدينة، أحبها الغريب وأحبته، فصارَ اسمُها "أم الغريب"، استقبلت عمالاً من بقاعِ الأرضِ، عربًا وآخرين.. يافا أطعمت الفقير والغني، وسقت البشر والحجر، واستقبلت الجميع مِن كافة الأطياف، وكانت أرضُها الحُبلى بالخيرِ والبركاتِ تُغدق الِنعم على أهلِ يافا ما قبل النكبة. يومًا ما، قبل الاحتلال، كُنّا لا نخشى ترك الباب غيرَ موصد، غيرَ قلقين على ما في البيتِ من نِعمٍ وفيرة. أمَّا بعد الاحتلال، فبتنا نخشى السرقة والنهب واغتصاب البيت واحتلال المكان، نخافُ أيّ شيءٍ ونقلق من كُلّ شيء، فما حدثَ أكبرُ مِن أن تصدِقهُ أذنٌ أو تراهُ عين".

وفي ظل أسرةٍ حنون أقامَ فخري جداي، بعد أن تزوّج، وأنجب صبيين وبنتًا، وتأثِّر بوالده "الذي لم يخشَ النكبة ولا المجازر المهولة التي ارتكبها المحتلون، واختار البقاء في يافا، التي امتلأت لاحقًا بالأغراب، من بلغاريين ورومانيين، واشكناز، فغابَ الأمان مِن الديارِ إلى الأبد".

"ويضيف فخري كل شيءٍ في هذه الأيام يسيرُ ضد البشر، حتى حالة الطقس اللاذع الحرّ لم يكن يومًا ما كما هو عليه الآن، وفي بيت الوالد كانت الحياةُ تعُج بالفرح في مواسم الأعياد، حين كان والدي، رحمه الله، يملأ البيت بالحلويات، (كنافة وبقلاوة وبورما)، فيلتم اليافاويون من جميع الأحياءَ مهنئين وفرحين بلقاءِ أهلِ البيت من عائلتي".

 

سُبحان مُغيِّر الأحوال!

عن بيروت ما بعد النكبة يحدثني فخري جداي، الذي ظلّ فيها سنتين حتى استطاع أن يعود إلى بيته في فلسطين، فيقول: "في البداية كانَ اللبنانيون يرحبون بالفلسطينيين، لكنّ كثرة الأفواج الفلسطينية التي دخلت بيروت، أخافت البلد المضيف. وفي سوريا فُتحت البيوت والأحضان".

ولم ينسَ فخري جداي أنّ عائلته وعائلات فلسطينية كثيرة من علية القوم كانوا يسافرون كل صيف إلى أرجاء بيروت للاستجمام تحت شمسها الـمُشرقة، ولكنه يعود ليحدثني عن يافا فيقول: "كانت يافا مدينة مزدهرة وثقافية بامتياز، استقبلَت عظماء الطب والعلم والفن، ففي مسرح أبولو غنّت أم كلثوم، كما خطا الموسيقار عبد الوهاب فوق ترابِها، وحسدها اللبنانيون، بل والحيفاويون أيضًا، بفضلِ مجدها وعزها وخيرها. لكنني أصبتُ بغصةٍ ووجعٍ قلبٍ وأنا أرى البيوت تُسرق عنوةً والعائلات اليهودية تحتلُّ أملاكًا سرقوها مِن أيدي الفلسطينيين".

لم يرغب بالتوقُّف عن الحديث حين قال: "سيبقى مجد وعز يافا بعودة أهلها إليها، إنها المدينة الأروع والجوهرة الثمينة التي لن نفرّط فيها مدى الدهرِ ".

 

بكاؤنا المرير

سألتهُ بعد وصفٍ يخرُج مِن القلبِ ليصل القلب: "هل لديك إيمانٌ بعودةِ الأحفاد إلى ديارِ الأجداد والآباء؟!"، فردّ قائلاً: "آخ يا حبيبتي، شو أقول.. بكل أسف، مفيش عندي إيمان بهذا الشيء! فش أمل، راحت يافا ببلاش، كانت بيوتها مليانة، عفش، أكل، مجد وعزة، كلوا راح! ايش ظل اتأمله؟! أنا إنسان، بشر، بعرف الفرق بين الحلم والأمل والواقع! يا ريت ترجع يافا لأهلها، كنت ببوس موطئ القدم". وواصل كلامه: "خلينا نكون واضحين، بلاش نخدع أنفسنا، أو نصدق حكامنا العرب، مضت 60 سنة، وهم يخدعوا فينا، بكفي... بكفي". صمت ثم عادَ بعد فترة وجيزة ليقول: "فلسطين لا تعود إلا بشيء واحد ووحيد، هو قوة السلاح، عدا ذلك فليذهب كلُ واحدٍ مِنا ليحمل ما بقي معه وليرحل إلى البعيد".

وأضاف أبو يوسف: "آخٍ يا وجع قلبي، حينَ كانت القناصة مِن اليهود تُطلق عياراتها النارية باتجاه اليافاويين فيسقطون قتلى مبعثرين في الشوارع، لا يجدون مقابر تأويهم، وما اكتشافُ الهياكل العظمية البشرية، إلا دليلٌ آخر على حجم الجرائم التي نفّذها الـمُحتَل، ففي يومٍ واحدٍ أطلقوا نيران بنادقهم على 27 شابًا سودانيًا كانوا يعملون في بيعِ الفستق في يافا".

قلّبنا معًا ألبوم الصور العائلية، فرأيت تفاصيلَ تعبقُ بشتى الذكريات، ورغم إغلاقنا الصفحة الأخيرة، إلا أن خيالي ظلّ يراقِبُ مشاهد احتفالية بعودة جموعٍ مِن البشر إلى حضن يافا، عندها قلتُ كي يهرُب اليأس من عيني أبو يوسف: "إن شاء الله سيتحقق حلمُ العودة إلى يافا وتشارك العائدين فرحتهم".