بقلم: الشاعرة الفلسطينيَّة نهى عودة

كانت الصَّباحاتُ مختلفةً عن أيّ مكان آخر، لم يكن يومًا الصباحُ هادِئًا كما كُنَّا نظنُّه، فقد تعوَّدْنا على ضجيجه وضوْضائه.. كنتُ دومًا أشاهد التلفازَ وأستمتعُ بالأفلام المصريَّة القديمة صاحبة الزمن الجميل، وأتابعُ الأبطالَ الذين لهم شخصيات خياليَّةٍ لا نراها في مُجتمعنا.. كلماتٌ آسِرة وأسلوبٌ رقيق، والفَساتِين المكشوفة الأكْتاف التي تُعتبَر كارثةً عُظمى إنْ قامتْ إحدى فتَيات حيِّنا بارتدائها..

كنتُ أعتبرُ ما أشاهده من هدوء الصَّباح في هذه اللَّقطات السنيمائية هو مَحضُ خيالٍ ولا ينتمي إلى الطبيعة والحياة.. حين تمسكُ بطَلةُ الفيلم فنجانَ قهوتها وكِتابها، فهي تستيقظ وهي بكامل جمالها وأنوثتها، وتذهب إلى شْرفة منزلها لتقرأ ما تيَسَّر مِمَّا تُحبُّ أنْ تقرأَه على أنغام العصافير المُغرِّدة هنا وهناك.

 الصَّباحُ في تجمُّعنا الفلسطيني مُختلفٌ تمامًا، لربَّما تصحو على أصوات باعةِ الخُضار أو السمك الذين يتجوَّلون في الحيِّ مع مُكبِّرات الصوت غير آبهين بمَنْ يصحو أو ينزعج.. غير أنَّ الأمرَ كان مُختلفًا في منزلنا، فقد كان أبي الحَنون يذهب مُبكِّرًا إلى المطبخ لإعداد فنجان قهوتِه، حتى يترك أمّي تأخذُ كفايَتها من النَّوم.. أمَّا أنا فقد كنتُ على عهْدٍ مع الصباح المُبكِّر وما زلتُ على عهدي وأحبُّه. كنتُ طفلةَ الصَّباح وأضْحيْتُ امرأةَ النُّور، فكان لِزامًا عليَّ أن أسمع طرطقةً غير مُتعمَّدة يُحدِثها أبي، فمطبخُ منزلنا لا يحتوي على بابٍ يَقِيه صوتَ المِلْعقة وهي تضربُ في رَكْوَة القهوة. يأخذ والدي قهوتَه ليذهب فيرتشفها مع سيجارته التي لطالما عشقها غير آبهٍ بكل تنبيهات والدتي عن أضرار التدخين ورائحته المزعجة.. يُعِدُّ قهوتَه ثم يذهبُ إلى شرْفة منزلنا المُطلَّة على البحر والجبل في آنٍ.. أتسلَّلُ إلى مكانه لأنْعَم برؤية وجهه الذي أحبُّه، ومَزاجِه اللَّطيف وابتسامته العَذْبة.

لا يمضي على صباح أبي وقتٌ طويلٌ حتى تبدأ نساء الحي بالخروج من منازلهن، ودون إِذْن مُسبَقٍ يتوجَّهْن إلى الزِّيارات المفاجئة في الصباح المُبكر، ففي ذلك الوقت لم تكن الهواتف مُتاحةً. كانت الفكرةُ أنْ تأتي جارتُنا وحدَها لكنها في الطَّريق إلى منزلنا تصطحبُ معها من حالفها الحظُّ بإلقاء السلام عليها، وعندما يَلمَح والدي النِّسوةَ قادمات إلى بيتنا، يُسارع إلى تغيير ثيابه ومغادرة البيت مُسرعًا.

تستيقظُ والدتي وتأمرُنا بالالتزام داخل المنزل، وخفْض أصواتنا، وعدم السماح لأنفسنا بأنْ ننضمَّ إلى جلسة النِّسوان الورْديَّة. هذه التعليمات تندرج أيضًا تحت العادات والتقاليد التي تنصُّ على إبعاد الفتيات عن أحاديث النساء والجلوس معهن، حيث لا يتم تعريفهنَّ بأيّ شأنٍ من شؤون المرأة المتزوجة وأحاديثها. فقد كانت الفتاة تتعلَّمُ الشؤونَ الزَّوجيَّة عندما تتزوَّج وتنتقل إلى منزل زوجها، وهناك تعيش هي أيْضًا عادات الزِّيارات المُتبادلة بين النِّسوة، وتكتشفُ أحاديثها..

كانت الصَّباحات في مُخيَّم اللاجئين بمثابة وكالة الأنباء حيث تتفرَّد كل امرأةٍ بإطلاق ما لديها من أخبار الحيِّ (هذه تزوجَّت، وتلك تطلَّقتْ، وهذا اشترى سيارة جديدة.. يَلِيه وضْعُ مُخطُّطٍ للزيارات الجماعيَّة، مثلاً، إلى امرأةٍ رُزِقتْ بمولودٍ جديد، ويا لحظِّها الجميل إنْ كان المولود ذكَرًا، فذلك يُعتَبر إنجازًا عظيمًا، أمَّا إنْ كان المولود أنثى، فخيرُ ما يبْدأنَ به الكلامَ هو السَّلامُ على المرأة النَّافس، قائلات لها: "الله يعوِّض عليك"، وكأنَّ الفتاة لا تجبر الخاطر كالصبِّي الذي تُبْنَى عليه آمال العائلة).