بقلم: محمود أبو عبية

طفل لم يتجاوز الخمسة أعوام من عمره، يحمل جثمان شقيقه الرضيع الذي ارتقى شهيداً في إحدى غارات الاحتلال في عدوانه المتواصل على قطاع غزة.

بعيون بريئة غاضبة على قتل الطفولة ينظر إلى أخيه وهو بين يديه، متأملاً تلك الأيام التي جمعتهما تحت سقف منزل أصبح رماداً، تتسلل دموع من عينيه تشكو تارةً ألم الفراق، وأخرى تتساءل إن كان دوره قد اقترب في سجل الشهداء الأطفال.

كَبُرَ ذاك الطفل أعواماً كثيرة في لحظات، فما بين لحظة إنقاذه من بين الركام إلى لحظة مواراة جثمان أخيه الثرى، قد مرت عصور من الزمن في التفكير ماذا بعد في اغتيال الطفولة.

بينما ووري جثمان الرضيع الثرى يسمع دوي غارة أخرى لقوات الاحتلال على منازل الآمنين من أهلها، يخرج طفل آخر لم يتجاوز السادسة من عمره، وقد حالفه حظ الوصول حيّاً للمستشفى بعد انتشاله من بين الركام، يحمد الطفل الله أنه ما زال حياً بعد كم الانفجار الذي خلفه قصف الاحتلال لمنزله، ويردد "أنا مصاب أنا لم استشهد".

لوهلة نظر الطفل حوله بعد أن استجمع نفسه من ألم إصابته، يبحث في الأرجاء عن والديه ولا يجدهم، ثم يصرخ فجأة "أريد أبي"، يصمت برهة ثم يكرر صرخته متبوعة بأخرى بأنه لا يستطيع الكلام، ثم يعود ليحمد ربه أنه لا يزال حياً.

وذكرت مصادر طبية أن ما يقارب 70% من الشهداء في قطاع غزة البالغ عددهم قرابة 27 ألفاً منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في حصيلة غير نهائية هم من النساء والأطفال، منهم 60% تقريباً من الأطفال فقط وما يناهز 40% من العدد الإجمالي للشهداء بواقع ما يقارب 11 ألف شهيداً من الأطفال خلال عدوان الاحتلال المتواصل، فيما أصيب نحو 65 ألفاً غالبيتهم من النساء والأطفال أيضاً، منهم كثيرون بُترت أطرافهم.

ولا يزال أكثر من 8 آلاف مواطن بينهم أطفال في عداد المفقودين تحت الركام وفي الطرقات، في ظل منع قوات الاحتلال وصول طواقم الإسعاف إليهم.

في أحد مراكز الإيواء بمدرسة خليفة في بيت لاهيا شمال القطاع، يستلقي طفل على ظهره غير قادر على الحركة، بعد أن اغتالت أحلامه رصاصة قناص من قوات الاحتلال وهو يحاول الذهاب لدورة المياه، ما أسفر عن إصابته بشلل نصفي.

بصوت يرتجف خوفاً وألماً لما حل به وبنفس متقطع، يروي الطفل ما حدث معه، ويقول بعيون تملأها دموع الخيبة متسائلاً لماذا أطلق ذلك القناص النار عليه، "أتمنى أطلع وأتعالج وأصير أمشي، أنا طفل بدي أعيش".

لقتل الأطفال والأحلام في غزة أشكال كثيرة، فهناك ترى طفلاً يحمل إناءً بين يديه الصغيرتين أمام طابور مهول من الأطفال والكبار للحصول على بعض الطعام لسد رمقه، يقف خارج الدَّوْرِ في منطقة تعلو الواقفين بقليل، ينفضُ كفّيْهِ ويضحك بهستيريّة واصفاً الوقوف هناك "بالموت الأحمر".

تمر في الأنحاء غيمة ماطرة بغزارة من تحتها مجموعة من النازحين قد تم تهجيرهم مشياً على الأقدام من منازلهم، يتوسّطهم طفلٌ لم يتجاوز الثالثة من عمره قد أنهكه التعب فاتّكأ فوق أمتعة يجرها شقيقه الأكبر على دراجة هوائية، يغلبه النعاس من الوَهَن فينام حاضناً ذاك الكيس الذي لربما خبّأَ فيه لعبته الصغيرة.

وتشير التقديرات إلى أن 85% من سكان قطاع غزة اضطروا للنزوح بعد أن دمرت قوات الاحتلال ما يقارب  70% من المباني فيه، وتوزع النازحون بين مراكز الإيواء التابعة للأونروا والخيام التي تكدست في العراء جنوب القطاع، في ظروف مأساوية يعانون برد الشتاء القارس ونقص في كل شيء بدءاً بالطعام والمياه الصالحة للشرب والأدوية والمعدات الطبية.

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، أفادت أن أكثر من 80% من الأطفال في قطاع غزة "يعانون من فقر غذائي حاد"، وتشير تقديراتها إلى أنه في الأسابيع المقبلة سوف يعاني ما لا يقل عن 10 آلاف طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الذي سيهدد حياتهم".

وذكرت في بيان صدر عنها، أن "هذه النتائج تشير إلى أن جميع الأطفال دون الخامسة في قطاع غزة وعددهم 335 ألف طفل، معرضون بشدة لخطر سوء التغذية الحاد والوفاة التي كان يمكن الوقاية منها لولا استمرار تزايد خطر المجاعة".

وتابعت: "يأتي هذا الخطر غير المقبول في وقت تشهد فيه المنظومات الغذائية والصحية في قطاع غزة انهيارًا كاملاً"، مشيرة إلى أن "أكثر من ثلثي المستشفيات لم تعد تعمل بسبب نقص الوقود والمياه والأدوية الحيوية أو بسبب تعرضها لأضرار كارثية بسبب الهجمات"، داعية إلى الوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة.

كل هذا يأتي في وقت أعلنت فيه وزارة الصحة أن هناك ارتفاعاً في حالات تفشي المرض المسجل منذ منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي: 180 ألف حالة التهاب في الجهاز التنفسي الحادة، 136,418 حالة إسهال (ارتفعت حالات الإسهال لدى الأطفال دون سن الخامسة من 48,000 إلى 71,000 في أسبوع واحد فقط بدءاً من 17 كانون الأول/ ديسمبر، وهذا يعادل 3200 حالة إسهال جديدة يومياً)، 55472 حالة جرب وقمل، 38010 حالات طفح جلدي، 5330 حالة جدري الماء، و4683 حالة يرقان.

يُقتل الأطفال وتُغتال طفولتهم في كل مكان بقطاع غزة، علماً أن التعداد السكاني في فلسطين يتسم ب "الفتوة"، حيث تبلغ نسبة الأطفال (الأقل من 18 سنة) حوالي 44% من مجمل السكان البالغ 5.48 مليون نسمة، فيما تبلغ نسبة الأطفال في قطاع غزة 47% من مجمل عدد السكان البالغ عددهم 2.23 مليون، وفقا لتقديرات للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في يوليو / تموز 2023.