من لا يتقن حديث الذاكرة، لن يتقن حديث المستقبل، وحديث الذاكرة هو حديث الوفاء والتبصر، لا التذكّر فحسب، الوفاء لا للرموز التي أنارت بيوت الذاكرة فقط، وإنما للقيم والمفاهيم والأمثولات الوطنية والأخلاقية التي كرستها هذه الرموز كذلك، والتبصر فيها على نحو الدراسة والتعلم لأجل المضي قدمًا في الدروب التي سارت فيها تلك الرموز.


الذاكرة مثل بستان، نتفيأ قامات أشجاره العالية، وورده العابق العطر، ولنا فيه حياة لا يستطيعها الموت، وللأمانة فإن هذا البستان بات في عهدة متحف ياسر عرفات، نراه يسقي أزهاره مع كل سيرة من سير زرّاعه المهرة، وهو يشعل شمعة لأعياد ميلادهم ،كلما حلت المناسبة.


دخلت هذا البستان غير مرة، والاثنين الماضي دخلته لأتنسم عطر أمير القدس فيصل الحسيني، والحق كان العطر عابقًا بكلمات المتذكّرين، وقد فاض من عيونهم قبل حناجرهم، وطوال الوقت كنت أنصت فخورًا بهذه السيرة العطرة، لهذا الأمير، وواثقًا أن شعبًا يتذكّر قادته في منتدى ياسر عرفات، وقرب ضريحه، وعلى نحو الوفاء لهم وتكريسًا لقيمهم الوطنية والأخلاقية لن يهزم أبدًا.


لأكثر من ساعة، كنت الناصت الأمين، وصورة الأمير باسمًا لم تفارق مخيلتي، تمامًا كما لم تفارقني صورة القدس بقبابها، ومآذنها، وأبراج كنائسها، وبأهلها المرابطين في حاراتها، وعلى أدراج الصلاة، وباحاتها،  بهذه الحال يتجلى المعنى البليغ: حضور الحسيني هو حضور القدس، ولهذا لا غياب هنا، ولا تغيب، وبستان المنتدى لا كذب ولا تثريب.