الحارث الحصني

بعد أكثر من شهر من التجريف الضخم الجاري في خربة الفارسية بالأغوار الشمالية، بدت الصورة أكثر وضوحا لطبيعة ما يمكن أن تكون عليه الأمور قريبا في المنطقة.

فالأمر لم يكن بحاجة لأكثر من لوحة حديدية وضعت مؤخرا قرب التجريف تحمل كل المعلومات الرئيسية لما يجري في المكان، فتقديرات المختصين في شؤون الاستيطان، وحتى السكان في المنطقة كانت تشير في البداية إلى أن ما يجري هو نواة لإنشاء بؤرة استيطانية كبيرة في المكان، وكما جرت العادة يمكن أن تصبح يوما ما مستوطنة جديدة.

لكن ما يجري في الواقع هو تجريف لإنشاء مدرسة تجمع بين التعليم العادي والديني، لمستوطنة "جفعات سلعيت"، القريبة من المكان.

"الهدفان أبغض من بعضهما البعض". يقول الناشط الحقوقي عارف دراغمة.

وبعد ترجمة المعطيات المدونة على لوحة حديدية وضعت عند مدخل الطريق المؤدي إلى مكان التجريف، وهو نفسه المؤدي لمستوطنة "جفعات سلعيت"، فإن مجلس إقليم غور الأردن، ما يعرف بـ"مجلس المستوطنات"، هو المشرف عليها.

 كما حملت اللوحة اسم المشروع، وهو مجمع المدرسة الدينية الثانوية لمستوطنة "جفعات سلعيت".

و"سلعيت" هي إحدى المستوطنات المقامة على أراضي المواطنين في خربة الفارسية، وأنشئت عام 2001، كبؤرة استيطانية شرعنها الاحتلال عام 2018.

يقول الناشط دراغمة: "اليوم أصبح في الفارسية أربع مستوطنات، وأربع بؤر".

والمثير للدهشة أن تلك المستوطنات لا تبعد عن بعضها البعض سوى بضع كيلو مترات قليلة فقط.

ويمكن لشخص في خيام إحدى العائلات في المنطقة، أن يكون في دائرة جغرافية تحيطها عدة مستوطنات، وبؤر استيطانية.

ويسري تخوف بين المواطنين في المنطقة من خطورة ما يقوم به المستوطنون من تجريف لم يتوقف منذ أكثر من شهر.

حتى عام 1967، كان يسكن في الفارسية حسب الأرقام التي ذكرها دراغمة لمراسل "وفا"، قرابة 5 آلاف مواطن، بدأ عددهم بالتآكل شيئا فشيء بسبب مضايقات الاحتلال الإسرائيلي التي لا تنتهي.

وحاليا بات لا يسكن المنطقة أكثر من عشرين عائلة تمتهن بعضها تربية الماشية، والأخرى الزراعة المروية على استحياء.

بالنسبة لدراغمة، فإن ما يجري الآن هو مخطط قديم جديد، فالاحتلال يسعى منذ سنوات لربط المستوطنات في الفارسية ببعض، لإنشاء مدينة استيطانية في المنطقة، على حساب التواجد الفلسطيني الذي يتهدده خطر الهدم والإخطارات المتكررة.

فالمعطيات على أرض الواقع تؤكد ذلك.

"اليوم مدرسة دينية، وغدا مشاريع بنية تحتية أخرى". قال دراغمة.

في عام 2013، هدم الاحتلال تجمع الفارسية ثلاث مرات في شهر واحد؛ بغية الضغط على الفلسطينيين لترك منازلهم، وفعليا تركت العديد من العائلات المنطقة وارتحلت لمناطق أخرى.

يقول دراغمة: "جففوا ينابيع المياه التي كانت تساعد المواطنين على الزراعة المروية بمساحات كبيرة، ثم أعلنوا مناطق محميات، وأخرى مناطق عسكرية مغلقة".

وبالأرقام التي يحتفظ بها دراغمة، وهو شاب يتابع عن كثب ما يجري في الأغوار، فإن 35% من أراضي الفارسية مناطق عسكرية مغلقة وتدريبات، و7% منها محميات طبيعية.

لكن هذه النسب لا يمكن أن تقاس على الجميع، فالمستوطنون في المنطقة يستبيحون الأراضي بشكل يومي.

عودة إلى المدرسة الدينية التي ينوي المستوطنون بناءها، فإن التقديرات بالعين المجردة تقول إن مساحة ما جرفه المستوطنون حتى اللحظة نحو 30 دونما، أما محيط المدرسة فتقول التقديرات أنه سيستولي على مئات الدونمات.

في الليل يعم هدوء حذر في المكان، بعد أن تغادر طواقم العمال والمختصون المكان، قبل العودة صباحا. وأمكن مشاهدة حركة لا تنقطع نهاراً على مدار شهر، لعشرات الآليات الضخمة التي تعمل في المكان.

فالجبل الذي كان قبل شهر على أقل تقدير يحمل تضاريس جبلية طبيعية، صار هذه الأيام مستوٍ كأنه قاعدة لبناء ضخم في المكان.

وهذه ليست المدرسة الدينية الأولى في المنطقة، فعلى مقربة منها أقام الاحتلال في السنوات الأولى من انتفاضة الأقصى مدرسة على قمة جبل مقابل لها، لكنه لم يفتتحها.

بالنسبة لدراغمة، فإن الصورة أصبحت أكثر وضوحا في المنطقة، فالاحتلال قد بدأ فعليا في مرحلة جديدة بسياسته الاستيطانية في المنطقة.

"الآن أصبحنا نرى الصورة بشكل أوضح" قال دراغمة، وكان يقصد أن المنطقة التي عاشت طيلة سنوات حالة من التهجير والهدم أصبحت على بعد خطوة واحدة لتكون مدينة استيطانية متكاملة.