بسام أبو الرب

يمسك الفنان الفلسطيني نواف سليمان، بأحد أقلامه التي استحدثها بنفسه؛ كي تساعده في ترجمة حالة الحنين الدائم لموطنه فلسطين، بعد رحيله عنه قسرا عقب حرب العام 1967.

هذا الحنين الدائم جسّده الفنان سليمان (62 عاما)، من خلال معرض الخط العربي، فني تشكيلي، حروفي، حمل اسم (مدن في القلب، أسماء وحروف) جرى تنظيمه في المتحف الفلسطيني في العاصمة الأميركية واشنطن، وهو معرض يقدم فيه 20 عملا تجربة تشكيلية لأسماء المدن الفلسطينية رسماً وكتابةً بطريقة فنية وإبداعية.

سليمان نزح وعائلته عن بلدته عقربا جنوب نابلس مع احتلال الضفة عام 1967 إلى الأردن، ثم رحل منها بعد أيلول الأسود في العام 1970 إلى الكويت، وظل شبح الحرب يطارده، ففي أواخر العام 1990 رحل للمرة الثالثة متوجها نحو الولايات المتحدة الأميركية، حسب ما أفاد به سليمان في حديث لمراسل "وفا". 

يقول سليمان "كنت صغيرا في ذلك الوقت، ولم أستوعب ما كان يحدث حولي، خصوصا حين رحلنا الى الأردن، وبدأت الأسئلة تحاصرني، وكنت أعتقد أنني فهمت، أثر النكبة على العائلة،  رأيته في عيني أمي وشقيقاتي، وهناك بدأ التفكير والربط ومحاولة الفهم، ولكن ما حدث بعد ذلك أصابني بالخلل، كما يقول الراحل محمود درويش (ولفكرتي عن عالمي خللٌ يسببهُ الرحيل)، وكان الرحيل الثاني إلى الكويت، والثالث إلى واشنطن، والسبب الرئيسي هروبا من الحروب". 

"كانت البدايات مع ظهور ميولي الفنية عام 1968، وقتها قال لي مدرس التربية الفنية (أنت أفضل من يرسم في هذا الفصل)، وأذكر أني قلت ذلك لأمي ولكنها كانت أم بسيطة فلم تعر ذلك اهتماما"، ويضيف.

ويصادف الخامس عشر من أيار المقبل الذكرى الـ73 لنكبة شعبنا الفلسطيني، وتهجيره وتشريده من أرضه في العام 1948، فيما تصادف الذكرى الـ54 لحرب حزيران عام 1967، واحتلال الضفة الغربية. 

وللنكبة واحتلال الضفة الغربية من قبل الجيش الاسرائيلي، وقع كبير على الفنان سليمان، فيقول "كان لدي إحساس دائم بأن الألم الفلسطيني لم يكن مُعبرًا عنه لأسباب عدة، ودوما كنت ابحث عن أفضل الطرق لدي لأعبر عنه بطريقتي رغم كل التحديات، وحين ذهبنا للكويت بدأت أبحث عن الميول الحقيقية لديّ وتعرفت على الكثير من الفنانين والموسيقيين هناك وبدأت أقرأ عن مدارس الفن الأوروبي الكلاسيكي (الواقعية والانطباعية)، وما بعد ذلك من السوريالية والحداثية.

ويقول سليمان "إن 20 عملا فنيا تشكيليا حروفيا بأسماء المدن الفلسطينية، يعكس الشعور بهذه المدن والحنين اليها والرغبة بتخليد أسمائها، والتي للأسف اصبح بعضها منسيا؛ بعد احتلال الاسرائيلي لها، وعند زيارة المعرض (الواقعي أو الافتراضي/ أونلاين) يكتشف الزائر مدن فلسطين من خلال تاريخها وأسمائها، وعلى نحو يعكس الشعور بهذه المدن وحنينه اليها ورغبته بتخليد أسمائها". ويرى أن التخطيط عبارة عن لوحة لجسر الاختلاف وفتح الحوار بين الثقافات، موضحا ان هناك وجهين لفن التخطيط هما: الرؤية، والروح التي تظهر جليا في شكل الحروف العربية، والصعوبة تكمن بإدراك المعرفة والرؤية وامتلاك الأدوات.

ويؤكد انه جرى استحداث أقلام وأحبار وأوراق خاصة به، ولهذا النوع من الفن الذي يجمع ما بين الخطين العربي والصيني، مشيرا الى أنه في كل لوحة يستخدم أنماطا من الخط العربي بما في ذلك بعض الأساليب التي جرى استحداثها مثل (LetterCut) و(SpongePen)، والديواني، والكوفي، والنستعليق الفارسي، والأندلسي، والتي تم تعديلها لتلائم التفسير، والنظرة لتلك المدن وثقافتها وتاريخها.

ويضيف "بدأت بكتابة اسماء وعواصم عربية عقب اقتراح من أحد الاصدقاء، وبعدها تولد مشروع مدن في القلب التي ركزنا على مدن فلسطينية باتت منسية".  

كان نواف سليمان يختلس الوقت ليقرأ في الشعر والأدب، ويستعير ذاكرة شعراء عرب أمثال محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وأحمد دحبور والسيبا والبياتي وغيرهم، مع المدن التي عاشوا فيها او زاروها، فعرَّج على دمشق، وبيروت، والقاهرة، وبغداد، وحيفا، ويافا، وعكا، والناصرة، ورام الله، ونابلس. فيقول: "اشعر بعظيم الامتنان للشعر ولهؤلاء الشعراء، وأحس بفراغ ذاكرتي من علاقة حميمة وعميقة مع الاماكن. يؤنبني هذا الشعور فأحاول الآن تعويضه بتقديم أعمال تشكيلية ملائمة، يعتمد أكثرها على التشكيل الحروفي.

 ويعتبر سليمان أن المنحنيات في أعماله العربية وأسماء المدن ليست يفرضها الخط، بل الشعور بالحنين، والتوق لاستدارات حانية: مثل تكور البطن بمولود جديد، التكور في النوم بحثا عن الدفء، الدوران طربا، الانشغال بالتفاصيل المدورة من الاجساد، انحناءة الصلاة، صمود وكبرياء حرف الألف، التضرع والحنو في حرف الياء، ونوم تلك النقطة في حرف النون (المنفصل) في حضنه، والانحناءة على رأس المحبوب بقبلة، وعلى مهد الرضيع الغافي، بتسبيحة شكر للخالق في حروف أخرى.

ويتخيل ان على هذه الكرة التي تواصل الدوران لتحضن اجسادنا فيما يعتقَدُ انه منتهى، حيوات تدور وزمن دائري يتجدد، أحب ان يهديه اسم ورسم مكانه. فلا زمان بغير مكان ولا مكان بغير زمان، ولا ذكرى بدون زمان ومكان.

 ويعمل نواف حاليًا كمدير تنفيذي ومؤسس لـ(ObjectDC)، ومن خلال رؤيته وقيادته، قام بتحويلها إلى وكالة تسويق متكاملة رائدة متعددة الثقافات في أميركا الشمالية، حيث نفذت حملات شاملة لعدد من الشركات للوصول إلى الأسواق الناشئة متعددة اللغات والثقافات.

وقد تم تكليفه من قبل العديد من المنظمات والجامعات لإنشاء مشاريع فنية للخط متقنة تظهر جمال وعمق الخط العربي التقليدي ومزجها مع أنماط الكتابة الآسيوية الأخرى.

 بقيت المدن الفلسطينية التي لم يشبع منها سليمان في صغره، محرمة عليه إلى العام 2011، فكانت زيارته الأولى بعد حصوله على الجنسية الاميركية، فيقول رحلتي الأولى كانت مليئة بالحقائق المؤلمة، لقد وجدت إجابات عن أسئلة الطفولة، ولكن ظهرت أسئلة جديدة خصوصا من ابنتي التي رافقتني آنذاك وكان عمرها 16 عاما.