كانت رحلة أخرى غير التي توقعتها، ففي عرف السجان الثابت ألّا يستريح الأسير حتى لا يُتعب سجانه، فالرحلة التي تستغرق عادة نصف ساعة يجب أن تستمر لساعات وأيام شاقة مرهقة فيما يعرف بالبوسطة المفولذة خوفا من تسلل الشعور الإنساني للأسير، فإذا ما وقعت الجريمة وشعر الأسير بإنسانيته يفقد السجان مبرر وجوده ويصبح وجوده أمرًا زائدًا عن الحاجة، ولهذا فهو يبتدع الأساليب العقابية يوميًا كي تبقى مسلطة على رقاب الأسرى الفلسطينيين لكي يتحقق الهدف المبتغى بتجريدهم من إنسانيتهم أولًا وفلسطينيتهم ثانيًا، وهذا ما كنت أتوقعه حينما حزمت أمتعتي للنقل من سجن جلبوع في أقصى شمال الأرض المحتلة بالقرب من بحيرة طبريا وسهل مرج بن عامر إلى سجن رامون الواقع في الطرف الجنوبي لفلسطين المحتلة، ولكن لطف الله متحقق فلكورونا منافعها للذين لم تصل استغاثاتهم لمسامع العالم الذي يقف غاضا طرفه عن هذه الجريمة اليومية المرتكبة داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي. وبالفعل فقد ركبنا سيارة السجن التي تنقل الأسرى، وإذ بها تحمل شيئًا من صفات الحضارة الإنسانية التي افتقدناها لعقود، فلأول مرة أركب وتكون المقاعد غير حديدية تلسعك في حر الصيف وبرد الشتاء، ولأول مرة أستطيع الجلوس بشكل طبيعي ولأول مرة منذ ثمانية عشر عامًا أكتشف من جديد أن هناك حياة أخرى، فقد كان جزءًا صغيرًا من نوافذ السيارة مخرمًا باتساع قطر السيجارة وإذ بي اشتم رائحة الحرية ويخترق بصري كل ممنوع وينطلق محلقًا في ربوع الوطن الغالي فهذه سهول مجدو العامرة، وهذه غابات الصنوبر المتشبثة بالأرض وهذه القرى العربية في المثلث تقابلنا، كانت عيوني تتابع نظراتها بابتهاج وفرح ونشوة انتصار وأنا أقول لرفيقي في الرحلة هذه فلسطين وهاهم الفلسطينيون يبنون ويتوسعون ليبقوا غصة في حلقهم وليبقوا صخرة جاثمة على صدورهم، نعم، رأيت لأول مرة السيارات الحديثة التي يتحدث عنها الأسرى الجدد ورأيت أجهزة الهاتف المحمول الحديثة في أيدي السجانين وتعرفت على التكنولوجيا الحديثة التي أسمع عنها منذ أكثر من عشر سنوات ورأيت كيف تغيرت الحياة فأصبح فيها من الجمال ما يستحق أن ننتظره وأن نسعى لأن نحياه.

 كانت رحلة أشبه بالاستيقاظ من الغيبوبة بعد سنوات من فقدان الذاكرة داخل القبور الإسمنتية، وبرغم القيود المحيطة بيدي وقدمي شعرت بأنني الآن طير يحلق في السماء وشعرت بجمال الحياة.

الآن أنا أجلس في ساعات الليل المتأخرة لأشارككم من داخل سجني هذا الشعور الإنساني الذي قد يحياه الأسير لمرات معدودة طوال عقود طويلة، أو لربما لن ينال فرصة طوال هذه السنوات أن يعيد ترميم نفسه والشعور بأنه ما زال على قيد الحياة.