كل فلسطيني عاش وعايش تفاصيل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية لشعوب الأمة العربية شاهد على مكانة فلسطين في وجدان العربي، ليس لأنها قضية الأمة العربية المركزية وحسب بل لأن العربي الأصيل الوفي لمبادئ العروبة يعتقد حتى اليقين أن حريته واستقلال بلاده ناقصة ما دامت ركائز منظومة الاحتلال الصهيوني الاستعماري الصهيوني العنصري قائمة على أرض فلسطين، فكل عربي بلغ المستوى المعقول من الوعي القومي يعتقد أن المشروع الصهيوني خطر داهم على وطنه، ونعتقد أن هذا الوعي ينمو بالفطرة وقد لا يحتاج إلى تنظير أو خطابات سياسية مؤدلجة أو كتلك المفعمة بالسفسطائية وبمصطلحات صعبة النطق حتى على العربي البسيط كتلك التي يستخدمها بعض البارعين في استخدام القضية الفلسطينية للتكسب  المادي والسياسي على حد سواء. 

لفت نظرنا في حديث سفير فلسطين لدى الجمهورية التونسية الشقيقة مع إذاعة موطني يوم أمس، كيف استطاع الأشقاء في تونس وتحديدًا الرئيس قيس سعيد ترسيخ مصطلح "الحق الفلسطيني المطلق" كأحسن تعبير عن إيمان الشعب التونسي وقيادته السياسية بالحق التاريخي والطبيعي للشعب الفلسطيني في أرض وطنه التاريخية والطبيعية، وكأفضل انسجام مع المبادئ الثقافية التي نربي عليها الأجيال الفلسطينية، وأدق توازن ما بين السياسي والثقافي الذي تمت صياغته في بيان وثيقة الاستقلال  والمعروفة (بإعلان الدولة) التي صدرت عن الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الخامس عشر من تِـشْرِين الثاني/نوفمبر من العام 1988 في العاصمة الجزائر، وكأن صدى خطاب الرئيس الرمز الشهيد ياسر عرفات ما زال يحلق في سماء تونس التي وقفت مع فلسطين كما وقفت مع جارتها الجزائر في السراء والضراء. 

الحق الفلسطيني المطلق سمعناها من رئيس تونس العربي المنتخب بنسبة حقيقية غير مسبوقة قاربت الـ80% من الناخبين لدى الشعب التونسي، ولا ننسى أن سعيد وأثناء حملته الانتخابية ومناظرته مع المرشحين للرئاسة قد اعتبر التطبيع مع منظومة الاحتلال الإسرائيلي جريمة خيانة، أما وأن سفير فلسطين في تونس قد قال إنه فوجئ بوجود مكتبات في رياض الأطفال خاصة بفلسطين، وهذه شهادة نضيفها إلى شهادتنا نحن الذين عشنا في تونس ما بين فترة الخروج من بيروت بعد الحرب الإسرائيلية في العام 1982 على لبنان وما بين إعلان قيام السلطة الوطنية في العام 1994 وفترات طويلة ما بعد هذا التأريخ الأخير، فإننا نصادق على شهادة السفير الفاهوم الذي تولى مهمته خلفًا للسفير سلمان الهرفي سفير فلسطين الآن في فرنسا ونؤكد أن دموعنا قد سبقتنا في التعبير في مناسبة احتفال في روضة أطفال دعاني إليها صديقي التونسي الدكتور ناصر الشارني قبل أكثر من ثلاثين عامًا، فانهمرت دموعي وأنا أشاهد أطفالاً بعمر زهور شقائق النعمان يغنون ويقدمون تشكيلات فنية تعبيرية على أنغام موسيقى وكلمات أغنية زهرة المدائن  للسيدة العظيمة الفنانة اللبنانية فيروز. 

يحيي الأشقاء التونسيون يوم الأرض الفلسطيني كما نحييه هنا في فلسطين، ويزيدون علينا أنهم يحسبونه أسبوعًا للبدء بتنشيط الدورة الدموية لوعي المواطن التونسي بالحق الفلسطيني المطلق تمامًا كما تبدأ دورة الحياة على الأرض من جديد مع بداية كل موسم ربيع، فتنطلق التظاهرات الشعبية ومؤتمرات الأحزاب والنقابات، وتنظم الندوات ذات الطابع الفكري والثقافي والسياسي أيضًا، والعروض السينمائية، ومعارض الفنون التشكيلية والصور والملصقات الفلسطينية، وما زلت أذكر الشاب التونسي الذي حضر من أقصى جنوب البلاد التونسية إلى مقر الإعلام الفلسطيني في المنزه الخامس في العاصمة ليطلب ملصقات فلسطينية بغرض إقامة معرض بمناسبة يوم الأرض، ولا نبالغ أن الشاب قطع وبمبادرة شخصية تحمل نفقاتها أكثر من ستمائة كيلو متر لتلبية نداء ضميره، واعتقد أنني ما كنت بحاجة لأسأله عن دوافعه بقدر اهتمامي بتلبية طلبه كما يشاء وأكثر، وأعتقد أن مثل هذه المواقف لا تحتاج إلى تفسير ولا تنظير لا كلام منمق إذ يكفي أن فلسطين تعيش في قلب هذا التونسي العربي الأصيل، فالفلسطيني عندما ينشد بلاد العرب أوطاني فهو على يقين أن فلسطين تعيش في قلوب التونسيين، كما تعيش تونس في قلوب الفلسطينيين، وتعيش في قلوب العرب والأحرار في العالم كما تعيش فكرة الحرية والسلام في عقولنا لتحرير العالم من شر منظومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الظالمة في هذا العالم. 

الحق الفلسطيني المطلق هذا المصطلح الذي أدخله الرئيس التونسي قيس سعيد الى القاموس السياسي كما أدخلت فلسطين مصطلح الانتفاضة، جاء منسجمًا مع ما جاء في إعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني التي تلاها القائد الرمز الشهيد ياسر عرفات أبو عمار في المجلس الوطني عام 1988، حيث بلغ اللغة أحسن درجات تقواها وقوتها وأخرجت ضفيرة مجدولة من السياسي والثقافي المرتكز على الحق التاريخي، فقد نصت الوثيقة على التالي: "على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب الفلسطيني، نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ"، وفيها هذا النص أيضًا: "إلا أن ديمومة التصاق الشعب بالأرض هي التي منحت الأرض هويتها، ونفخت في الشعب روح الوطن، مطعما بسلالات الحضارة، وتعدد الثقافات، مستلهما نصوص تراثه الروحي والزمني". أما نقطة الارتكاز المضيئة دائما والتي يجب ألا تغيب عن بال أحد أيًا كان موقعه السياسي أو فكره وعقيدته الثقافية وهي التي يستند إليها أستاذ القانون الدستوري في تونس قبل أن يصبح رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد فهي هذا النص من الإعلان "استناداً إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". 

نؤمن بحقنا المطلق في فلسطين ومطمئنون لإيمان أمتنا بحقنا التاريخي والطبيعي في وطننا فلسطين، ولنا في تونس الشعبية والرسمية صورة نتمنى أن تصبح حال لسان كل الأشقاء العرب الرسميين وأعمالهم وسياساتهم، وها هو الشعب التونسي ورئيسه قيس سعيد نموذجًا.