المجابهة الدرامية بين البشرية جمعاء وبين وباء الكورونا لا تكاد تخفي عن الأنظار الجهد المحموم المتسارع الذي تقوم به حكومة نتنياهو وكارتيلات الاستيطان وعصابات المستوطنين والشركات المنتفعة من مشروعهم الاستعماري، من أجل تعجيل نهب الأرض والدفع قدماً بمشاريع التوسع الاستيطاني، وبخاصة في مناطق استراتيجية كالمشروع الاستيطاني "إي 1" أو في الغور الفلسطيني.

بمثل هذه المفارقة المأساوية نستقبل ذكرى يوم الأرض الخالد هذا العام، لتؤكد لنا أن الأرض هي محور الصراع بين شعبنا وبين الحركة الصهيونية التي تسعى بكل الوسائل إلى نفي التاريخ وتزوير الحقيقة لتكريس مقولتها الكاذبة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب".

وبينما تتضافر الجهود العالمية لمواجهة الكورونا وتسعى القوى المحبة للسلام من أجل هذا التعاون الدولي، فإن التحالف بين نتنياهو وبين ترمب، الذي لم يستطع أن يكتم فرحته، فهنأ نتنياهو بتشكيل الحكومة حتى قبل أن تتضح معالمها، يواصل سياساته العدوانية في مصادرة الأرض والتهويد وهدم المنازل والقتل خارج إطار القانون، كان آخرها عملية إعدام الشهيد سفيان الخواجا براصة في الرأس في بلدة نعلين بدم بارد، واقتحام المدن الفلسطينية في الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، وبشكل خاص في بلدة العيساوية التي تداهمها قوات الاحتلال بشكل شبه يومي، وتعتقل السكان فيها وتنكل بهم. ناهيك عن إلقاء مئات العمال الفلسطينيين المشتبه بإصابتهم بالكورونا أمام المعابر وفتحات جدار الضم العنصري، بما فيهم العامل الفلسطيني الذي ألقته قوة الاحتلال قرب حاجز بيت سيرا للاشتباه بإصابته بالفايروس، والاعتداء بالضرب على الفلسطينيين على الحواجز العسكرية، وهدم المساكن والمنشآت، ومصادرة الخيم التي تعدّها المدن لحالات الطوارئ، ومواصلة حصار قطاع غزة وتنفيذ عمليات توغل فيه وإطلاق نار!

أمّا أن تقوم قوات الاحتلال باعتقال الشباب المقدسي بتهمة قيامهم بتعقيم عدد من المؤسسات والمرافق في المدينة، وأن تهاجم وتزيل الحواجز التي أقامها المواطنون في مسافر يطا في الخليل لفحص العمال الفلسطينيين القادمين من إسرائيل وإرشادهم، وأن تقوم عصابات المستوطنين بعمليات عربدة كان آخرها الظاهرة المقيتة التي تنطوي عليها رمزياً عمليات البصق على المركبات والممتلكات الفلسطينية لنقل عدوى الكورونا إليها، وأن تمنع إدخال أكثر من 140 صنفاً من المواد الغذائية والمعقمات وأدوات التنظيف عن الأسرى الفلسطينيين الذي يزيد عددهم عن 5000 أسير في ظل هذه الظروف الاستثنائية بمواجه فايروس كورونا، وأن ترفض الإفراج عن مئات الأسرى المرضى منهم وكبار السن والمعتقلين الإداريين والأطفال والنساء، فإنما ذلك تعبير عن تأصل روح الكراهية وتغلغل التحريض على العنصرية والرغبة الجامحة في الخلاص من الشعب الفلسطيني بكل السبل، والتي تتجذر في نفوس غلاة الاستيطان.

هذه الصورة لا تختلف عما يحصل في الجزء الغالي على نفوسنا في أراضي الـ 1948، حيث تتضح العنصرية البنيوية والمترسخة لدى الأنظمة الاستعمارية والاستيطانية بجميع مؤسساتها بما يشمل نظام الصحة، إذ تكمن الفجوات الهائلة في  توفير الرعاية الصحية بين اليهود والعرب الفلسطينيين، وانعدام مراكز فحص الكورونا في البلدات العربية أو المحاذية لها، خلافاً للوضع القائم في المدن اليهودية، وانعدام المعلومات والتعليمات الرسمية التي تُنشر فقط باللغة العبرية. هذا عدا عن اقتحام بلدة رخمة في النقب بالرغم من حالة الطوارئ وإلصاق أوامر بهدم منزلين فيها، في الوقت الذي لم تقدم فيه السلطات الإسرائيلية أية خدمات للبلدة من أجل تجاوز أزمة الكورونا، بل قامت قبلها بأيام بتجريف وتدمير آلاف الدونمات من المحاصيل الزراعية في القرى غير المعترف بها في النقب من قبل ما يسمى "دائرة أراضي إسرائيل".

تزداد خطورة هذا الوضع بعد أن انهارت محاولات قطع الطريق على عودة نتنياهو إلى الحكم، بالرغم من الجهود التي بُذلت من أجل ذلك والتي لعبت فيها القائمة المشتركة دوراً محموداً وجوهرياً. وبينما تواصل اللجنة المشتركة الأمريكية الإسرائيلية تحديد حدود المستوطنات وفضائها التوسعي بمعزل عنا نحن أصحاب الأرض يجري التمهيد للإقدام على الخطوة التي أجازها ترمب لحليفه وصديقه نتنياهو بضم الغور وشمالي البحر الميت وأجزاء هامة من الضفة لإقامة إسرائيل الكبرى وحشر الفلسطينيين في بانتوستان تربطه متاهة من الأنفاق والجسور ويخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة.

حكومة الطوارئ المتوقعة في إسرائيل وعنوانها المعلن محاربة الكورونا ستكون في الواقع حكومة التمهيد للضم، والمهمة الرئيسية التي تواجهها حركتنا الوطنية في هذا اليوم الخالد، يوم الأرض، هي مهمة مواجهة هذه الخطوة بصف فلسطيني موحد واستراتيجية فعالة من أجل إحباط أهداف أصحابها دفاعاً عن مستقبل الشعب الفلسطيني وعن وجوده الوطني على أرضه، فالوحدة في الهوية والمصير هي الوقود الذي يمكّن شعبنا من الاستمرار في صموده ومقاومته من أجل تقرير المصير.  هذه مهمة الشعب الفلسطيني بأكمله في الضفة الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية وفي قطاع غزة كما في أراضي عام 1948 كما في المنافي. ولذلك يتوحد شعبنا الفلسطيني كله في الاحتفال بهذه الذكرى تحت عنوان واحد "الأرض لأصحاب الأرض الفلسطينيين". وإذا كانت ظروف المواجهة مع الوباء المتوحش تعوق إمكانية التعبير عن هذا العنوان بالفعاليات الجماهيرية الواسعة فإنه اليوم ينطلق من كل حنجرة فلسطينية ويصدح به كل بيت، وينطبع على كل راية ترتفع فوق سطح فلسطيني.

ويتعزز هذا الصوت بفعل النجاحات التي تحققها حركتنا الوطنية بالرغم من عتمة المشهد، والتي كان من أبرزها التقدم المذهل الذي حققته القائمة المشتركة في انتخابات الكنيست الأخيرة والذي جعل منها - بالرغم من كل محاولات الإقصاء والتهميش-  عنصراً مُقرراً في مصير دولة إسرائيل، نقيضاً لما يعلنه قانون القومية العنصري سيء الصيت الذي يحاول زوراً حصر تقرير المصير في اليهود فقط. وقد أبرزت السياسة الحكيمة التي تنتهجها القائمة بكل مكوناتها بوضوح المهمات التي تحظى بالأولوية وأسقطت كل الذرائع، وفضحت الزيف المدوّي للديمقراطية الإسرائيلية التي تتبجح بكونها الوحيدة في الشرق الأوسط وهي "ديمقراطية العنصرية وكراهية الآخر والفساد والتشبث بالسلطة".

هذه النجاحات تُضاف إلى التحول البطيء ولكن المهم أيضاً على الصعيد الدولي والذي يمهد لحقبة قد ينهض خلالها المجتمع الدولي بمسؤولياته بمساءلة إسرائيل على إنتهاكها الصارخ للقانون الدولي وجرائم الحرب التي ترتكبها بحق شعبنا، بما في ذلك وبشكل خاص الجريمة المشهودة والكبرى وهي جريمة نهب الأرض. تمثل ذلك في إصدار مجلس حقوق الانسان لقاعدة بيانات الأمم المتحدة المتعلقة بعمل الشركات المتواطئة في الاستيطان والاحتلال، واستكمال المداولات القانونية للبتّ في الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية على أرض دولة فلسطين بعد أن أعلنت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا، وجود أساس معقول لفتح تحقيق جنائي في ارتكاب جرائم في الأرض الفلسطينية المحتلة.

فلسطين اليوم بين وباءَين: فبينما يواجه شعبنا كله فايروس كورونا، ويناضل من أجل التخلص من هذه الجائحة للحفاظ على الحياة البشرية باعتبارها الشرط الأول لكل ما عداه، فهو بالتصميم نفسه يواجه جائحة الاحتلال الاستعماري بروح متوثبة وعزيمة عصية على الانكسار، مُجذراً وجوده الصامد على أرضه التاريخية التي سيبقى حقه فيها خالداً مهما بلغ النهب مداه.