التاريخ قبل كورونا، ليس كما بعده، وهذا ما تؤكده مقولة "أن التاريخ لا يسير بخط مستقيم "، فلكل مرحلة رموزها، أبطالها، قادتها واختراعاتها، فبعد الحرب العالمية الثانية، أعيد تشكيل النظام العالمي من جديد، وفقاً لقانون شريعة الغاب، حيث فرضت الدول المنتصرة بالحرب، شروطها على الدول المهزومة، وأعيد توزيع الثروات وفقاً لهذه المعادلة، وانقسم العالم من جديد، وفقاً لسياسة المصالح، وفي هذه المرحلة تشكلت منظومة القيم الجديدة، للتحكم بمقدرات الشعوب، بين معسكرين متصادمين، يعملان وفقاً لنظرية الرأسمالية والشيوعية، وفي الحالتين تم تسخير مقدرات الشعوب، للتسابق في صناعة أدوات القوة والإرهاب للإنسانية، بدلاً من تعزيز مفهوم التنمية الاجتماعية بكل أبعادها، وتسابق المعسكران في اختراعات إبادة البشرية، "تحت شعار حمايتها من خطر الآخر" ، ومع استمرار العجلة، تغيرت المفاهيم في توصيف الاصطفاف، ولكنها بقيت بالنتيجة موحدة في التسابق على احتواء مقدرات الشعوب خلال حقبة من الزمن .

في عصر كورونا وفي زمن قياسي لا يتعدى شهور، أعيد تشكيل موازين القوة قبل أن تبدأ المعركة، وبدون تخطيط واتفاق مسبق، فرضت كورونا بدون إنذار معلن، حالة الطوارئ في كل أنحاء العالم، وأصبح الجميع خاضعاً لها، وبدأت حالة المخاض بين الدول، بالفرار عن بعضها، وظهرت منظومة القيم الجديدة داخل الدولة نفسها، فتعزز السلوك الأناني في حماية الذات، على المستوى الجماعي والفردي، فالمصاب بالدولة متهم يجب احتجازه، والمصاب بالأسرة وجب التبليغ عنه، تغيرت العادات السلوكية التي استمرت عبر الزمن، وتغيرت سلوكيات العلاقة مع الجماعة والأفراد، وبهذا تشكلت الأنماط السلوكية الاجتماعية الجديدة داخل الأسرة وخارجها، تغيرت منظومة القيم، لإعادة التحكم في مسار البشرية، بشكل مناقض لكل ما رسمته مراكز التخطيط، التي أمضت وانفقت الكثير من الوقت والمال، حيث أعيد تقسم العالم إلى معسكريين، الأول كورونا والثاني دول العالم مجتمعة، وبلحظة فارقة، أصبحت كورونا القوة العظمى، التي وحدت كل الأعداء ضدها، وأحدثت انقلاباً عالمياً، وأبطلت كل معايير القوه للدول التي كانت تسمى بالدول العظمى، والتي أنفقت أرقاماً مالية لا يستطيع عقلي أن يضع تقديراً لها، في سبيل بناء أدوات السيطرة، فأدوات السيطرة قبل زمن كورونا كانت ترتكز على مجموعة من المرتكزات، ومنها "امتلاك الأسلحة، القوة الاقتصادية والمالية، الأيديولوجيا، النفوذ الدولي، القانون، القيم القدرات التعليمية والعلمية وغير ذلك " .

كورونا استطاعت بعدة أيام أو أكثر قليلاً . اختصار الزمن وحسم نتائج المعركة دون اتفاق، وأعادت تعريف مفهوم السيطرة، وأسقطت كل مؤشرات القياس لها، فمفهوم السيطرة والقوة، أصيب بالعجز، لأن نظرية الانتصار بالحرب تغيرت، بالانتقال المفاجئ من مفهوم الهجوم إلى الدفاع، فكل الدول اليوم تحاصر نفسها، لمحاربة عدوها الساكن في أعماقها، وبذلك لم يعد مفعول القوة العسكرية، للانتصار في الحرب قائماً، لأن كل ترسانتها العسكرية معطلة، فهي لا تستطيع إطلاق النار على نفسها، كما أن نظرية الحماية الذاتية التقليدية، انقلبت من مفهوم الاختباء بالملاجئ المقاومة لأسلحة الدمار الشامل، التي دفعت الشعوب الفقيرة ثمنها، إلى مفهوم الاختباء وراء قطعة قماش ( كمامة ) لا يصل سعرها ثمن فوطة، لمسح الغبار عن جزء صغير من ترسانتها العسكرية، و أصبحت العديد من دول العالم التي تمتلك صناعة الصواريخ عابرة القارات، عاجزة عن صناعة عصا صغيرة (swap) عابرة للأنوف .

كورونا غيرت معايير موازين القوى، فأصبحت أيّة دولة فقيرة، لديها مئة مصاب مثلاً، مؤهلة لأن تكون دولة نووية، تهدد السلم العالمي، بلا تكلفة مالية، وأن تهدد أكبر دول العالم امتلاكاً لأسلحة الدمار الشامل، فصفقات امتلاك القوة، أصبحت تشارك بها الدول الفقيرة، كما الدول الغنية، فهي قادرة على تغيير كل الاتفاقيات الدولية التي لم تكن يوماً، طرفاً بها، إلا من زاوية، إخاضعها للقوى المسيطرة بالعالم ، كما لم يعد هناك قيمة في عهد كورونا، إلى أهمية امتلاك عدداً من الدول، للقوة القانونية والسياسية، للتحكم بالقرار السياسي في أهم هيئة دولية، لأن كورونا أغلقت كل قاعات اتخاذ القرار، على المستوى الدولي، فمن يمتلك اليوم كرت الفيتو في مجلس الأمن، كمن يمتلك ورقة نقد مالية، لدولة لم تعد قائمة، لأن كورونا، اصبحت تمتلك حق الفيتوا لوحدها، لحظر عقد اجتماع لأكثر من خمسة أشخاص، وهذا ما أفقد هذه الدول ممارسة ساديتها على الدول الفقيرة، وبهذا أرادت كورونا أن تعيد اصطفاف العالم من جديد عبر تكريس المساواة بقوة الوباء الذي لم يعد امتلاكه حكراً على أحد .

كورونا أعادت صياغة مفهوم العدالة الاجتماعية، وانصاع الجميع لها، وكرست المساوة بين البشر، أكثر مما وحدتها
الأيديولوجيا والقانون، فهي أزالت كل الفوارق الطبقية، وأصبح الكل ضعيفاً أمامها، لأنه يمتلك نفس السلاح في الدفاع عن النفس، فالأثرياء فقدوا قدرتهم واحتكارهم، للتمتع بأموالهم المسروقة من الفقراء عبر الزمن، ولم يعودوا قادرين للوصول إلى أفخم الفنادق والملاهي والمطاعم، التي بناها الفقراء بعرقهم ، ولا ركوب الطائرات التي اعتاد العمال، أن ينظفوا سلالمها صباحاً ومساءً ، لم تعد المستشفيات حكراً لهم، فالمال لم يعد وسيلة للإقامة بأجمل الفنادق، بل الإصابة بالوباء هو الوسيلة، فبفضلها حقق الفقراء حلم إبليس بالجنة، وبهذا تكون كورونا قد أزاحت سلطة المال، وأعادت تكريس سلطة الإنسانية، فكل الأسواق المالية تحطمت وانزوى الساسة في غرف مغلقة كالمنبوذين.

في أوج سلطة الشيوعيين والعلمانيين، لم يتمكنوا من إغلاق مسجد أو كنيسة، في حين أن رجال الدين في عهد كورونا، أصدروا فتاوى لإغلاقها، فتوقف الطوفان في الكعبة، والحجيج في كنسية المهد، والصلاة في كنيسة القديس بطرس في روما، وفي مقابل ذلك عجز رجال الدين في زمن ما قبل كورونا أن يغلقو مسرحاً أو دار أوبرا، فقامت كورونا بمهمتهم .

كورونا غيرت مفهوم الوعي، وأعادت للإنسان إنسانيته من جديد، بعد أن سحقتها عجلة الاستغلال، فكل ما يجري اليوم يمثل حالة انشغال للحفاظ على الإنسانية، فالإنسان اليوم يمثل المثلث متساوي الأضلاع،فهو القوة التي تهدد العالم، وهو بنفس الوقت عامل النجاة، و الهدف الذي يقاتل العالم من أجله، فكل مقدرات العالم تنهار بسببه، وكل التكنولوجيا عاجزة اليوم، عن استبدال دوره، فاليوم كل شوارع العواصم تخلو من المارة، وتتعطل كل عجلة الإنتاج في سبيل حمايته .

كورونا ألغت كل الفروق العلمية، وأحرجت مهنة الطب ولو مؤقتاً، فلم يعد شرطاً أن تنفق آلاف الدولارات لتكون طبيباً، فكل إنسان هو طبيب في هذه الحرب، فالإنسان اليوم يحتاج، فقط لقرار ذاتي لحماية وعلاج نفسه بدون طبيب، و دون تكاليف مالية .

كورونا اليوم هي العدو الأكبر للعالم، كما يصورها محتكرو القوة، الذين اعتادوا على ممارساتها، فهل نرفع لها القبعات، لأنها اعادت تكافئ موازين القوى بين شعوب الأرض، وأزالت كل الفوارق الطبقية والعرقية والدينية بينها، وجعلت الفارق بين إنسان وآخر، بكونه مصاب أم لا، لقد حسمت كورونا شروط الانتصار بالمعركة الدائرة في كل شبر من العالم، فلم يعد امتلاك الصواريخ، أداة الحسم لتحقيق الانتصار، وإنما شروط الحسم، سيحققها أصحاب الياقات البيضاء، الذين لا يملكون سوى أدوات البحث والقلوب الرحيمة، ومن سيمتلك لقاح علاج كورونا هو من سيمتلك حقيبة الأزرار النووية لحماية البشرية، بعد أن منحتنا كورونا لحظات هزيمة المنظومة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، وأعادت للإنسانية مكانتها .

كورونا هي الإسم الأول الذي انتصر على كل الأسماء، دون دعاية أو ترويج باهظ الثمن، فهي اليوم ربما وصلت لكل بيت، لتعلن أن "كل البشر سواسية" فلا مناعة للأثرياء دون الفقراء ، ولا ضرورة لنهب ثروات الشعوب، لبناء ترسانة الأسلحة، التي صممت لإبادة البشرية، وعجزت عن إبادة فايروس، لا يرى بالعين المجردة، فهل تستحق كورونا جائزة نوبل للسلام في العام 2020 بعد أن أبطلت مفعول كل أسلحة الدمار الشامل وهيأت فرصة للسلام العالمي، فهل ستستفيد البشرية من الدرس بعد أن يقرع الجرس ؟

وزير الزراعة الفلسطيني/رياض عطاري