قبل حوالي خمسة وخمسين عاما وأثناء حضورنا فعاليات سيرك وألعاب خفة وغيرها على هامش معرض دمشق الدولي أصبت باندهاش عندما رأيت مصابيح كهرباء تضيء عند توصيلها بأطراف شابة حسناء أوقفوها في وسط المسرح بمايوه السباحة.

لم نستطع تفسير الأمر حينها، لكن والدي- رحمه الله- كشف لنا (الخدعة) عمليا رغم أنه لم يقرأ كتبا عن الكهرباء وتردداتها و(فولطاتها) لأنه أصلا قد تعلم الأبجدية العربية بجهد خاص دون تعلم في مدرسة، فكتبها وقرأها وكرسها لشؤون حياته الخاصة أما عمله في كهرباء وميكانيك السيارات فقد وفر له فرصة دخول مركز دماغ الآلة والاطلاع على أسرارها، ما مكنه من تحليل لغز جسد الشابة المولد للطاقة الكهربائية، وكشف (الخدعة) وبتنا نمارسها بالفعل ونحن صغار رغم خطورتها، فصرنا على يقين بأن جسد الفتاة ليس فيه طاقة خارقة، وإنما جسد عادي تم استخدامه وسيلة لنقل التيار الكهربائي من مصدره إلى المصباح في يدها في برنامج استعراضي ينال تصفيق الجمهور وسط استغرابهم واندهاشهم.

ذكرتني مشكلة شركة كهرباء القدس في بلادنا بتلك (الشابة الكهربائية) ذلك أن هذه الشركة التي تأسست منذ مئة عام تقريبا بقيت كجسد تلك الشابة مجرد ناقل للطاقة الكهربائية، ولم تصل إلى مرحلة توليدها أو البحث عن بدائل مقنعة بدل الاستمرار في (استعراض) لا يدهش ولا يبهر إلا الصغار وكبارا أميين، وكذلك الذين ليس لديهم طاقة تمكنهم من اضاءة عقولهم في البحث والتفكير والتحليل واستخلاص الحلول للمشاكل.

لا نعرف منهجا علميا يمكننا من استيعاب عبارات كهذه وردت في بيان صادر عن شركة وطنية شارفت على طي مئة عام من عمرها.

لتبرير انقطاع الطاقة الكهربائية المتكرر في مناطق امتيازها، فالشركة تعلم ولكن، وإليكم النص كما ورد: "نحن نعلم حجم المعاناة الكبيرة لاسيما في هذا البرد (القارص)، لكن ما حدث كان خارجا عن إرادتنا فالاحتلال مارس علينا أشكال العنصرية كافة من خلال مماطلته في إصلاح الاعطال"!!.

تبدو لنا المصطلحات المستخدمة في بيان شركة الكهرباء كبيان سياسي حزبي، فيما المواطنون توّاقون لسماع مصطلحات مهنية تقنية خالصة تبين لهم برامج الشركة العملية وجداولها الزمنية لحل مشكلة انقطاع التيار الكهربائي، لكن بما أن الشركة لا تملك حلولا عملية جذرية ولن تملكها على المستوى القريب، فإنها سارعت إلى استخدام مصطلحات سياسية كعادة المتهربين من تحمل المسؤوليات الوطنية عمليا!... فقرصت الشركة لغتنا العربية في عز (البرد القارس) ، وتبرأت من المسؤولية، وابتدعت اكتشافا بات ممكنا تسميته (الكهرباء العنصرية) أو (عنصرية 220 فولط) مثلا!!!.. وكأن هذا الكلام الساخن سيؤمن الدفء للمواطن البردان؟!

هنا تبرز للعيان مشكلة الفشل وسوء الادارة كأكبر مشكلتين تواجههما الشركة التي لم يبحث المسؤولون فيها عن بدائل تمكنهم من الانفكاك عن الاحتلال العنصري، وكأن رؤساء ومدراء الشركة لم يدركوا عنصرية الاحتلال إلا خلال الأزمة الراهنة، حتى لتبدو (عنصرية الاحتلال الاسرائيلي) حسب مسؤولي الشركة فسفورية تشع في العتمة فقط!! أي عندما يقطع المحتلون وهم عنصريون فعلا تيار الطاقة الكهربائية عنا... فالشركات تستحق لقب الوطنية عندما تسهم في التحرر من قيود الاحتلال والحاجة اليه مهما ضغر شأنها، وتصل بنا لمرحلة الاستغناء الكامل عنه.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن، لماذا لم يطور رؤساء الشركة ومدراؤها ومجلس ادارة هذه الشركة الوطنية لتتناسب طرديا مع رواتبهم الصاروخية التي تبلغ حسب معلوماتنا للمسؤول الواحد ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف فولط عفوا (دولار)!!

كيف لنا حل معادلة حسابية تطرحها الشركة التي تتحدث عن قيمة خسائر بقيمة 240 مليونا، لكنها في الوقت نفسه توزع أرباحا على المساهمين بقيمة 50 مليونا، ثم يقولون لنا إن السبب الرئيس للخسائر هو الديون على المواطنين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين رغم أن نسبة الكهرباء التي يستهلكها سكان المخيمات وغير مدفوعة لا تتعدى 10%، يقول مختصون بقدرة الشركة على تغطيتها وتعويضها علما أن المواطنين يدفعون ما قيمته 22% على فواتيرهم تحت بند ما يسمى (بدل فاقد).. ونعتقد في هذا السياق أن تصريحات رئيس مجلس الإدارة، مدير عام شركة كهرباء محافظة القدس هشام العمري وتأكيده التزام الحكومة بتسديد أثمان الكهرباء التي تستهلكها، وأن مديونية الحكومة صفر باستثناء مبلغ للشركة الأردنية المزودة لمنطقة أريحا تؤكد وفاء الحكومة لتعهداتها وقيامها بواجبها تجاه المواطنين والشركات الوطنية فهو القائل: "رغم الحصار المفروض على الحكومة إلا أن وزير المالية شكري بشارة أصدر تعليمات بتسديد كل مستحقات الشركة عليها، والآن مديونية السلطة بدل استهلاك الكهرباء صفر".

أما الحكومة فقد أعلن رئيس وزرائها الدكتور محمد اشتية تكفلها بدفع الديون المستحقة على المخيمات الواقعة في مناطق امتياز الشركة، ولكن لن تسدّد أيّ فواتير عن أيّ منشآت تجاريّة أو صناعيّة في المخيّم، "فهؤلاء يجب أن يدفعوا أثمان الكهرباء التي استهلكوها، وهم ليسوا معفيّين من الدفع، والحكومة لن تسدّد عنهم".

ونعتقد هنا أن الموطن بات على علم بجهود الحكومة من أجل رفع العقبات نهائيا من مسار الشركة لتستمر في تقديم خدماتها للمواطنين، وهذا من منطلق ادراكها لواجبها ومسئوليتها الأخلاقية علما أن الشركة خاصة، وليس للسلطة الوطنية ملكية فيها، وهذا القرار من الحكومة هو تطبيق لقرر رئيس السلطة الوطنية السابق ياسر عرفات- رحمه الله - الذي تعهد بسداد ديون سكان المخيمات، لكنه لم يطلب منهم عدم دفع قيمة الفواتير.. فالحكومة معنية بإنهاء التهديد الإسرائيلي بقطع التيار الكهربائي عن منطقة امتياز الشركة التي تشكل مساحة واسعة من الضفة الغربية ومدينة القدس وهذا بالتحديد ما قاله الدكتور اشتية.

المستغرب واللامقبول بقاء "كهرباء إسرائيل" المزود الرئيس لمحافظات: رام الله والبيرة، وبيت لحم، وأريحا والأغوار، إضافة لأجزاء من مدينة القدس بنسبة 90% فيما النسبة المتبقية نحصل عليها من المملكة الاردنية ومن انتاج محلي.

العجيب أن فلسطين تتمتع باكثر من 260 يوما مشمسا في السنة، لكن خبراء ومدراء ورؤساء الشركة لم تعنيهم هذه النعمة، ولم يفكروا بالتحرر من كابلات الاحتلال، ولم يعملوا على استثمار اشعة الشمس لتوليد الطاقة الكهربائية، أو مساندة بحوث تمكن المواطن من الحصول على الطاقة الكهربائية بمقابل معقول تمكنه من الصمود والاستغناء نهائيا عن الارتباط بالاحتلال، إلا اذا كان الربط بين المركز الرئيس في القدس الغربية مع شركة القدس أقوى من مسمى الوطنية الذي نريده اسم على مسمى لكل شركاتنا الفلسطينية وأولها شركة كهرباء القدس.