في طريق العودة من القدس الى رام الله بسيارة إحدى المتطوعات من جميعة اسرائيلية تأخذ على عاتقها نقل المرضى وعائلاتهم من المشافي واليها، تدعى "يعيل" في العقد السادس من عمرها، سألتني كيف هي "رام الله"؟ وجواب مني بكلمة:"جميلة".
سؤال من كلمتين وجواب من كلمة استغرق نقاشا لاكثر من ساعة، مما استلزم منها السير ببطء، بل لتغيير مسار الطريق لاستكمال الحديث. حيث كنت قد اتبعت جوابي بسؤال عن متى كانت زيارتها الأخيرة لرام الله؟
المفاجأة كانت قد أعلمتني انها لم تزرها منذ العام 67، اي قبل اثنين وخمسين عاما، لكنها لا زالت تذكر اماكن بعينها، وتصفها بدقة، ولا زالت تتحدث عنها بحب، وألم مجتمعين، ولا زالت تحلم بالعودة لزيارتها.
وسألتها مرة اخرى لماذا لم تعد لزيارتها، فثمة وفود عديدة تحضر الى رام الله من انصار السلام، وآخر تلك الزيارات كانت يوم الخميس، عندما حضر المئات، بمناسبة يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني (التاسع والعشرون من نوفمبر) وهو ذات اليوم لصدور قرار التقسيم عن الامم المتحدة عام 1947.
"يعيل" هي واحدة من آلاف المؤمنين بالسلام بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، وبحق الشعب الفلسطيني باقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ولكنها من المتخوفين من اعلان موقفهم كفعل سياسي على الارض.
المتخوفون من المشاركة في فعاليات نصرة السلام على الارض وعزل المتطرفين، كان محور لقاء التضامن الذي نظمته لجنة التواصل مع المجتمع الاسرائيلي في قاعة احمد الشقيري الرئيس الاول والمؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية، المقامة في مقر الرئاسة على بعد أمتار من ضريح الرئيس المؤسس للسلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات الذي قضى من اجل تحقيق السلام، وخلفه الرئيس ابو مازن، الذي لا يزال يصر على ان المفاوضات طريق يجب تعبيده لقطار السلام، بين شعبين لا مناص لهما الا التعايش جنبا الى جنب.
الى قاعة الشقيري التي توافد المئات اليها ممن يمثلون كافة الاطياف والشرائح السياسية والدينية الاسرائيلية، جاؤوا برسالة عنوانها، أن "نتنياهو لا يمثلنا"، وأن الحضور رغم قائمة طويلة من المعيقات اللوجستية التي تم وضعها من خلال نصب الحواجز، والتحريض ضدهم من قبل حكومة اليمين، انما ليؤكد على الحقوق الفلسطينية باقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية، وللتعبير عن رفضهم لشرعنة الاستيطان، وتعهد منهم لمواصلة الهجوم من اجل السلام، باعتباره مصلحة اسرائيلية قبل ان يكون مصلحة فلسطينية.
اصوات نصرة السلام كحركات وجمعيات وتجمعات واشخاص، التي تنوعت بين لغة العقل والعاطفة، وبين الجمع بينهما، قابلها جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، وهو من المؤسسين للمؤسسة الامنية، كان قد طغى على خطابه التفاؤل، رغم ما عدد من صعوبات تواجه عملية السلام بسبب تعنت اليمين الاسرائيلي، بقيادة نتنياهو الذي يصر ان يجعل شعبه يسير على حد السيف ضمانة لبقائه، وتخويف شعبه من وهم لا يتوقف عن ترويجه، وبانه لا شريك فلسطينيا يستحق عقد اتفاق سلام معه.
شريك السلام الفلسطيني، الذي يرفض نتنياهو وجوده، قال عنه الرجوب، بانه يتوفر اليوم بشخص الرئيس ابو مازن، كفرصة لا ينبغي على الاسرائيليين تضييعها، لكونه جامع للشرعيات بشخصه وتاريخه، ولما يحظى باحترام من قبل المجتمع الدولي لمواقفه وشجاعته في حماية خيار السلام، الذي يسعى نتنياهو ومعسكر اليمين الاسرائيلي لهدمه، بل واستبداله بجدار العزلة والكراهية.
الرجوب في كلمته الارتجالية والتي تحدث فيها باللغتين العربية والعبرية التي يتقنها، حيث تعلمها من خلال فترة اعتقاله لسنوات، جدد دعوته للجمهور الاسرائيلي بأخذ المبادرة بمحاصرة خطاب التطرف وعقلية رفض الاخر، وعدم تصديق فزاعة الوهم التي يستعين بها نتنياهو، طالباً أن تتشكل جسور لعبور المؤمنين بالسلام من كلا الشعبين لتوديع خطاب الكراهية والانغلاق، ووقف نزيف المعاناة لدى الطرفين.
فالسلام للفلسطينيين ليس مجرد ملجأ اضطراري بسبب ضنك معاش، بل خيار استراتيجي تعمل لاجل تحقيقه المكونات السياسية والدينية والثقافية، ولهذا اجتمع رجال السياسة والدين وحرص قاضي قضاة فلسطين محمود الهباش على رأس وفد من رجال الدين على استقبال المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، مقابلين لرجال الدين من يهود ومسيحيين، ليؤكدوا ان للسلام شريكا فلسطينيا مؤهلا لحمايته، ليس من اجل مصلحة الفلسطينيين فقط، بل من اجل استقرار المنطقة، وحتى لا يتم اهدار الفرصة وتكرار الخطأ كما قال كوبي ريختر في كلمته، بان تم رفض قرار التقسيم في العام 1947، واليوم يتم تكرار الخطأ، برفض خيار السلام.
"يعيل"، التي كانت قد قاربت على الوصول بنا الى الحاجز المسمى "معبر قلنديا"، علقت بنعم، نعم لقد نجح اليمين بالتغرير بنا وخداعنا لسنوات، وانا واحدة من ضحاياه، التي صدقت ان رام الله مدينة اصبح يسكنها أشباح، وان دخولي اليها يعني استحالة الخروج منها الا جثة هامدة.
نعم صدقت، تقول "يعيل" أن الجدار الفاصل بيننا وبينكم يجب ان يكون أعلى بكثير حفاظا على حياتي وحياة عائلتي، وحماية لمستقبل احفادي من جيران يريدون اقتلاعنا، إلى ان شاهدت ما تتعرضون له، من قمع وسرقة لاراضيكم واذلالكم على الحواجز، ومع ذلك لا زلتم تؤمنون بالسلام معنا.
نعم صدقت فزاعة اليمين، تقول "يعيل" الى ان قتل اعداء السلام من خدم اسرائيل وصاحب فضل كبير في بنائها، مثل اسحق رابين، فعلمت حينها ان معركة معسكر التطرف ليست مع الفلسطينيين، فقط، بل مع كل من ينادي بالسلام.
اظن اننا وصلنا تقول "يعيل"، وصلنا لبداية جديدة لمعاناتكم، بالمرور عبر الحواجز، أعتذر، والى نهاية نقاش كان يجب أن يطول، لكن الامل أن خطاب الكراهية كحبل الكذب لن يطول.
كنت اريد أن اخبرها قبل الوصول، انها مثل الكثير في المجتمع الاسرائيلي والفلسطيني ممن يريدون السلام ويحلمون به، لكنهم لا زالوا مترددين، وكثر ايضا لا زالوا يتساءلون عن جدوى اللقاءات معكم في ظل استمرار اليمين المتطرف بتقريره المزيد من صور المعاناة للشعب الفلسطيني، دون النجاح في وقفها، لكنني كنت ساقول ان ذلك لا يعني باي حال من الاحوال الاستسلام لخيار ابقاء الصراع ولخطاب الكراهية، بل لا بد من مواصلة السعي الفعلي من كلا الطرفين، لتحقيق حلم الانسانية بالسلام، رغم كل محاولات وأده.
بقلم: حسن سليم
(باحث دكتوراه، مختص بالشأن الدستوري)