منذ أُقيمَت أول مستعمرة في أرض فلسطين عام 1878 على قرية الخالصة والهوية الوطنية تواجه التحدي، لا سيما أنّ تلك المستعمرة كانت نواة المشروع الصهيوني، التي تعزّزت مع انعقاد مؤتمر بازل بسويسرا 1897، ومن ثم مؤتمر كامبل نبرمان 1905/ 1907، ثم اتفاقية سايكس بيكو 1916، ثم وعد بلفور 1917، والانتداب البريطاني 1920، والذي ثبت رسميًّا 1922، وصولاً لقرار التقسيم 1947، وإقامة دولة الاستعمار الإسرائيلية في 1948 على أنقاض نكبة الشعب العربي الفلسطيني، التي مزقت وشتت وحدته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والبيئية، وعمليا انقسم الشعب إلى ثلاثة تجمعات رئيسة الأول التجمع الذي تجذر في ارض الآباء والأجداد، وبقي داخل الأراضي التي أقيمت عليها دولة الاستعمار الإسرائيلية؛ الثاني التجمع الذي بقي في ارض الآباء والأجداد أيضًا، ولكنه انقسم إلى قسمَين، قسم في الضفة الفلسطينية، التي ألحقت بالمملكة الأردنية، وقسم في قطاع غزة، الذي أتبع للإدارة المصرية؛ والتجمع الثالث الذي هام على وجهه في دول الدول الطوق العربية والشتات عمومًا.
كان الهدف من إقامة المشروع الصهيوني وقاعدته المادية، دولة إسرائيل الاستعمارية تصفية وشطب الشعب الفلسطيني من الجيوبوليتك العربي والإقليمي والعالمي، والإبقاء على دولة الاستعمار الإسرائيلية فاقدة الجذور التاريخية، والغريبة عن المحيط العربي والشرق أوسطي عمومًا، وهي دولة طارئة وفاقدة الأهلية السياسية والأنثربولوجية، أقامها الغرب الرأسمالي لتحقيق أهدافه الاستعمارية في الوطن العربي، وفق قرار مؤتمر كامبل نبرمان، والذي تعزّز بوعد بلفور المشؤوم وسيرورته وصيرورته التاريخية، حيث شاء القائمون عليه تغيير خارطة المنطقة عمومًا، وليس شطب الفلسطينيين فقط.
وما زال الغرب الرأسمالي يواصل حتى اللحظة التأصيل لمشروعه الاستعماري على حساب مصالح وحقوق وثوابت وهوية الشعب الفلسطيني، الذي أبى أن يموت، وأصر على البقاء ممسِكًا بناصية مشروعه الوطني، رغم جرائم الحرب المتوالية، والمجازر والمذابح الصهيونية على مدار العقود الماضية، وكان هذا هو التحدي الأهم، وما زال يعتبر عنوان التحديات كلها: الإسرائيلية والأميركية والعربية والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومن هم على شاكلتهم من جماعات الدين السياسي بمختلف تلاوينهم، وهؤلاء احتياط استراتيجي للمشروع الغربي الرأسمالي حتى يوم الدنيا هذا.
وتعاظمت قوته، وحضوره الوطني مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وبانبثاق شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة مطلع 1965، وباختراقه الظلام الكثيف لهزيمة حزيران/ يونيو 1967، وحمله مشعل وراية الثورة وظاهرتها العلنية في دول الطوق العربية عموما والأردن خصوصا، وتحقيقه نصرا مؤزرا مع الجيش الأردني في معركة الكرامة 1968، وانتزاعه الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني في العام 1974 بفضل التضحيات الجسام، التي قدمتها فصائل الثورة في مختلف الجبهات، ومن ثم تحقيقه إنجازات أممية بإعادة الاعتبار لقضيته، كقضية سياسية بامتياز، متجاوزا البعد الإنساني، وتخطيه كل حروب التصفية الإسرائيلية والعربية، وأخطرها كان اجتياح حزيران / يونيو 1982.
كان لمجمل التحولات الدراماتيكية في سيرورة النضال الوطني أثر بالغ الأهمية على الجغرافية السياسية، حتى بات الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد حقيقة راسخة ومتجذرة في السياسة العالمية، وليس العربية، أو الإقليمية فقط. ولم يعد لقوة في الأرض تجاوز هويته وشخصيته الوطنية. رغم كل المؤامرات التصفوية، وآخرها صفقة القرن الترامبية المهزومة.
ولا تقتصر قيمة وأهمية استعادة الهوية الوطنية على تجمع فلسطيني دون الآخر، بل إنّها شملت الكل الفلسطيني، لأن الفلسطينيين رفضوا الفصل التعسفي بين فلسطيني وفلسطيني، وبين تجمع وآخر، وإن كانت قيادة منظمة التحرير تعاملت بجدارة وذكاء مع خصائص كل تجمع. غير أنَّ هذا التباين في الخصوصية، لم يحل دون أن تكون المنظمة الممثلة الشرعية والوحيدة للكل الفلسطيني. وفشلت، وهزمت، واندحرت كل المشاريع الكرتونية، ورموزها، وعناوينها، وبقيت المنظمة تتربع على رأس الشرعية الوطنية. ولم يفت في عضدها لا مشروع روابط القرى، ولا المملكة المتحدة، ولا حروب الأنظمة العربية ضدها في المخيمات والبقاع والشمال اللبناني، ولا أدواتها، التي انشقت عن حركة "فتح" الأم، ولا انقلاب حركة "حماس"، ولا حتى من حاولت دولة الاستعمار الإسرائيلية تلميعهم في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل من عملائها الصغار، الذين لفظتهم الجماهير الشعبية الفلسطينية وقواها الحية في كل التجمعات.
ويمكن الجزم أنّ قيادة المنظمة استفادت من تباين خصائص التجمعات الفلسطينية، لا سيما أنّها ما زالت تخوض حتى الآن النضال التحرري لتحقيق الأهداف الوطنية المتفق عليها في برنامج الإجماع الوطني. وتطرق كل أبواب ونوافذ وسبل الكفاح، ومن مختلف الجبهات والساحات لبلوغ الأهداف الوطنية. وإذا سلطنا الضوء على علاقة القيادة الشرعية مع أبناء الشعب الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب، فإننا نلحظ أنّها تسعى بكل جدارة وتصميم لإحداث اختراق في الشارع الإسرائيلي قدر ما تستطيع مستفيدة من وجود ما يزيد على المليون والنصف مليون فلسطيني من حملة الجنسية الإسرائيلية، ومن أنصار السلام أتباع الديانة اليهودية في المجتمع الإسرائيلي. وبذلت القيادة جهودا متواصلة لدعم كفاح أبناء الشعب الفلسطيني في داخل الداخل وصولا لتحقيق أهدافهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، وحصولهم على المساواة الكاملة. ولكنّها لم تحاول فرض رؤيتها عليهم، بل تعاملت مع رؤاهم وبرامجهم بموضوعية، وحرصت على خياراتهم، وحتى في حال وجود تباين في وجهات النظر، كانت تتعامل بمرونة عالية، دون أن يسقط ذلك حقها في التعبير عن رؤيتها، وتقديرها لكيفية الوصول لمصالحهم الوطنية ارتباطا بمصالح الشعب الوطنية العليا، والمتمثّلة بتحقيق السلام، واستقلال دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194.

ويمكن الجزم، أنّ تشكيل لجنة التواصل الوطني التابعة للمنظمة، كان إنجازًا، وشرطًا مهمًّا لتعميق الروابط الأخوية بين قيادة المنظمة وأبناء الشعب داخل دولة إسرائيل الاستعمارية، والتي أدّت دورًا مهمًّا في إحداث حراك إيجابي بالمعايير النسبية داخل المجتمع الإسرائيلي لجهة دعم الشخصية الوطنية من خلال إسناد القوى السياسية الفلسطينية في كل المحافل والمنابر بما في ذلك الكنيست الإسرائيلي، وأيضًا عبر تعزيز الشراكة السياسية مع كل إسرائيلي يؤمن بخيار السلام، ويرغب بالتعايش، ويسعى لإنهاء وإزالة الاستعمار الإسرائيلي عن أراضي دولة فلسطين المحتلة في الخامس من حزيران 1967. وبالتالي العمل من اجل خلق شراكة إسرائيلية فلسطينية مؤيدة وداعمة للسلام، وتعمل على محاصرة اليمين الصهيوني المتطرف، هو إنجاز لصالح الشعب العربي الفلسطيني في كل تجمعاته وتحديدا في داخل مناطق الـ48.
وعليه فإنّ محاولات بعض أتباع الدولة الإسرائيلية، وأجهزة أمنها الإساءة للقيادة الفلسطينية الشرعية، مردودة عليهم، وتكشف خطورتهم على الشارع الفلسطيني، وتضعهم في تناقض مع مصالح الكل الفلسطيني، كونهم مكشوفي الظهر تاريخيا أبا عن جد، وما زالوا حتى الآن يشكلون عقبة كأداء في تشكيل القائمة العربية المشتركة، كما فعلوا في الانتخابات السابقة في التاسع من نيسان / إبريل 2019.
لذا على مَن يدّعي الحرص على المصالح الوطنية للجماهير الفلسطينية، أن يكون على قدر المسؤولية، ومؤهلاً لحمل راية الوطنية، وأن ينسجم مع مصالح الشعب كله، وأن يقرأ اللوحة الفلسطينية جيًدا وبشمولية، ودون حسابات ضيقة وفئوية وجهوية، وبعيدا عن أجندة دولة الاستعمار الإسرائيلية ومخططاتها الخبيثة التمزيقية لوحدة النسيج الوطني والاجتماعي والثقافي. كانت وستبقى منظمة التحرير الوعاء الحاضن للكل الفلسطيني، والممثل الشرعي والوحيد للشعب كل الشعب العربي الفلسطيني شاء من شاء وأبى من أبى.