في ذروة التوتُّر والاستنفار بين إيران والولايات، جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي، من اليابان، لتأخذ الأزمة إلى سكّة أخرى.. الرجل لا يريد حربًا مع إيران، وهو راغب في الحوار معها إن هي أبدت رغبة مماثلة، وهو يتوقَّع لإيران مستقبلًا مزدهرًا، والأهم في "ظل قيادتها الحالية"، التي لا يسعى في تغييرها، إذ جُل ما يريده الرجل، هو الحيلولة بين طهران والقنبلة النووية، فقط لا غير.

الرجل لم يكتف بإصدار "إعلان النوايا" هذا، والذي يأتي معاكسًا لتصريحاته السابقة، والتي لم يتهدَّد فيها النظام الإيراني بالإسقاط فحسب، بل و"تسجيل النهاية الرسمية لإيران" ذاتها كذلك.. بل ذهب بعيدًا في "توسيط" شينزو آبي لبذل مساعيه الحميدة لحلِّ الخلاف بين الخصمين اللدودين.. كلُّ ذلك كان يجري على مرأى ومسمَع من مستشاره للأمن القومي جون بولتون الذي طالما ظهر في "خلفية" الصور التذكارية لرحلة الرئيس ترامب لطوكيو، ووسط ذهول وترقّب خيَّم فوق "الرؤوس الحامية" في عواصم المنطقة المتلهفة للحرب.

هل نحنُ أمام واحدة من "نوبات" الرئيس المتقلّب باستمرار، والذي يقول شيئًا في الصباح، قبل أن يأتي بنقيضه في المساء؟ هل قرَّر ترامب "التحوّط" من نفوذ وتأثير "الخلايا الصهيونية النائمة" في إدارته، والتي تقرع طبول الحرب على إيران بقوة، وهي الحرب التي لم يردها مرشحًا، ولا يريدها رئيسًا على مشارف انتخابات رئاسية لولاية ثانية؟ هل هي القناعة المستجدة بفشل حملة الضغوط القصوى التي شنَّتها الإدارة على إيران لتركيعها وجلبها إلى مائدة المفاوضات على ركبتيها، لا سيما أنَّ واشنطن تجد نفسها معزولة إلّا من بعض الأصوات "الناعقة في بوق" الحرب، والتي تصدر من تل أبيب وقلة من عواصم المنطقة، حصرًا؟ هل تخلَّى ترامب عن شروط بومبيو الثلاثة عشر للحوار والتفاوض والاتفاق مع إيران، فلم يبقَ منها سوى شرط واحد، يتعلَّق بالبرنامج النووي، وضرب ببقيتها عرض الحائط؟ ما وقع هذه التصريحات على عواصم المنطقة التي "طاشت فوق شبر ماء"، وظنَّت أنَّ الصواريخ ستنهمر غدًا على إيران، فاتحة صدورها وخزائنها لاستقبال "الغازي" الأمريكي وتمويل مغامراته الجديدة، حتى وإن بلغت كلفها، أرقامًا فلكية؟

ما من رئيس أمريكي سابق، ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران قبل أربعة عقود، ناصب إيران العداء والكراهية اللذان أظهرهما حيالها دونالد ترامب.. لقد حمل كل واحد منهم على النظام الإيراني، بيد أنه وحرص على التمييز بين الشعب وحكامه، على أنّ أحدهم لم يتورّط في الحديث عن إسقاط النظام أو تغييره، دع عنك حكاية "إنهاء إيران رسميًا" الشهيرة تلك.

لكن في المقابل، ما من رئيس قبل ترامب، بمن فيهم باراك أوباما الذي طالما اتّهمه الرئيس بمحاباة الإيرانيين وإبداء الضعف أمامهم، بشّر بـ"ازدهار إيران في ظل نظامها القائم".. وحده ترامب من فعلها.. وهو ترامب الذي يذهب إلى أقصى حدود التطرف في إبداء العداء، قبل أن يقفز إلى أقصى درجات "الكرم" في عروض الصداقات وإطلاق الرهانات ورفع سقف التوقعات، ودائمًا بالاستناد إلى "حدسه" و"المنطق السليم" كما قال هو نفسه ذات تغريدة.. ألم يتهدَّد كوريا الشمالية بـ"الزر النووي الكبير"، قبل أن يعود ويضرب صداقة لا تهزها التجارب الصاروخية، مع رجلها "القصير" كيم جونغ أون، على حد وصفه.

لا ندري إن كان الرجل سيثبت عند موقفه الأخير، كما تمَّت صياغته في طوكيو.. بيد أن "القفزة" في الموقف الأمريكي بحد ذاتها، أحدثت انفراجًا في حدة التوتر وبددت بعضًا من مظاهر الاحتقان، وعُدّت من قِبَل المراقبين، خطوة إلى الوراء عن حافة الهاوية.. وليس بعيدًا في ظل زحمة الوساطات والوسطاء، أن نرى مائدة مفاوضات قد التأمت وإن بعد حين، بين الجانبين.. أمَّا حلفاء واشنطن في المنطقة، والمراهنون على أساطيلها وصواريخها واقتدارها، فلا عزاء لهم.