هناك اشخاص يتركون بصمة قوية في حياتهم، وحياة شعوبهم نتاج موقف إنساني، أو سياسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي، أو إعلامي، أو ميادين الفن والإبداع، أو معرفي ثقافي في احد حقول الأدب، وتبقى أعمالهم شاهدا حيا على دورهم وعطائهم وإسهامهم، يصون موقعهم في دفاتر الخلود بعدما يغادرون موكب الحياة، ويترجلون عن مسرح العطاء، ويبقى حضورهم ناصعا كالنور في زمن الظلمات.
محسنة توفيق، الفنانة المصرية المبدعة قدمت اعمالا فنية عديدة، جلها أعمال ملتزمة، عبرت فيها عن خياراتها وتوجهاتها الوطنية والقومية والإنسانية، وعكست ايمانها بالشعب العربي المصري والأمة العربية، وانتصرت لقضايا العمال والفلاحين ولكل المناضلين في دنيا العرب والعالم، لأنها وعت محسنة الطفلة، وهي تبحث في سؤال انتفاضات العمال والمسحوقين والمحتاجين عموما في بلادها مصر والعالم ككل. سكنها السؤال الدائم والقلق عن الظلم والاستعمار، والحرب والسلام، والورد والحب في زمن الكوليرا، وكل الأزمان ..
المبدعة المصرية تخرجت من وزارة الزراعة 1968 (وهي بالمناسبة ليست الوحيدة من الفنانين المصريين، الذين تخرجوا من كلية الزراعة، والتحقوا بالفن)، لكن خيارها كان الالتحاق بمدرسة الفن، التي ابدعت فيها في كل اعمالها، التي أدتها، إن كان في أفلام "ذيل السمكة"، أو "قلب الليل"، أو "وداعا بونابرت"، أو "إسكندرية ليه؟"، أو "العصفور"، أو "البؤساء"، أو "الحب قبل الخبز أحيانا"، وأيضا في مسلسلاتها "المفسدون في الأرض"، أو "اللص والكلاب"، أو "ليالي الحلمية"، أو "المرسى والبحار"، أو "أم كلثوم"، ولم تبخل في أدائها، وتمثلت كل الأدوار، التي أوكلت لها، وجادت بثقافتها الفنية في محاكاة كل دور، كما يليق به، وبها كفنانة.
غير ان محسنة توفيق تجلت روعتها، وحضورها، ومكانتها الإبداعية في فيلم "العصفور"، وكان اسمها فيه "بهية"، التي نظم الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم قصيدة غنائية بعنوان "مصر يمة يا بهية ... يم طرحة وجلبية ... إلخ"، وغناها في الفيلم المرحوم الفنان الشيخ إمام، وكانت صرخة بهية العظيمة "لا حنحارب.. لا حنحارب" رفضا للهزيمة والاستسلام والخنوع، التي أكسبتها ما تستحق من الثناء والتقدير والتكريم، كونها أسبغت على مصر العروبة اسم "بهية"، فتماهت الفنانة والوطن تحت اسم البهاء والعطاء والكفاح المجيد للمحروسة وجيشها العظيم. وهذا الدور المميز في الفيلم نفخ في روح محسنة توفيق إلى فضاء الوطن والأمة.
ولم تنم الفنانة الموهوبة توفيق على مجد فيلم "العصفور"، بل واصلت عطاءها، وجسدت دورها الكفاحي بالوقوف بصلابة إلى جانب كل قضايا الكفاح التحرري وخاصة قضية العرب المركزية، قضية فلسطين والدفاع عن الثورة الفلسطينية المعاصرة، حينما ركبت مع العديد من الفنانين المصريين والعرب أمواج البحر العاتية لتصل إلى عاصمة العرب المحاصرة من قبل جيش الموت الإسرائيلي وأساطيل الولايات المتحدة الفاجرة أثناء الاجتياح للبنان الشقيق في حزيران/ يونيو 1982، تلك الحرب التي ابلى فيها الفدائيون الفلسطينيون واشقاؤهم من لبنان على مدار ثلاثة اشهر بلاء عظيما دفاعا عن فلسطين والأمة العربية، التي نام خلالها حكامها نومة أهل الكهف، غير ان الجماهير الشعبية العربية وعلى رأسهم الفنانون العرب، الذين خاطروا بحياتهم، وجاءوا إلى بيروت العرب ليؤكدوا للقيادة الفلسطينية، ان الشعوب معكم، ولم تتخل عنكم، ولا عن فلسطين، ولا عن اية قضية تحررية.
جالت بهية المصرية على القواعد ومواقع المواجهة، ودعمت بشجاعتها وشجاعة اقرانها من الفنانات والفنانين المبدعين روح العطاء والقتال بين اشقائها من الفدائيين الفلسطينيين واللبنانيين، وسجلت مع كل من كابد عناء الوصول لبيروت المحاصرة من جيش بني صهيون القاتل، لتعلن انتصارها للثورة والشعب العربي الشقيق في فلسطين، وللشعب الشقيق في لبنان.
ترجلت محسنة توفيق بعد رحلة عطاء طويلة امتدت من نهاية كانون الأول/ ديسمبر 1939 حتى وداعها الأخير عندما ترجلت عن مسرح الحياة في السابع من مايو/ أيار 2019 عن ثمانين عاما، ولكن عطاء الفنانة الموهوبة والمبدعة بهية ما زال حاضرا في مصر وفلسطين وكل مكان من دنيا العرب. لم تمت محسنة توفيق، وستبقى صفحتها خالدة حتى يوم الخلود الأبدي