كان دهس إسرائيلي لأربعة عمّال فلسطينيين قبل أكثر من ثلاثة عقود القشة التي قصمت ظهر البعير الإسرائيلي، إلّا أنّ الأسباب العميقة الكامنة وراء اندلاع الانتفاضة الأولى أسقطت محاولات الاحتلال الانتقاص منها والتعامل معها كـ "حادث سير" أو مظاهرة تقمعها بالغاز والرصاص، وتجاوزتها إلى ما قامت عليه من تراكمات ارتبطت بشكل وثيق بالاحتلال وسياساته، خاصة الاقتصادية، والتي تعيد إلى الذاكرة أيضا الخصم كسياسة.

وكان أبا إيبان الذي شغل وزير خارجية (إسرائيل) في سبعينيات القرن الماضي، حذّر وقبل سنة من اندلاع الانتفاضة الأولى، من أن "الفلسطينيين يعيشون محرومين من حق التصويت أو من حق اختيار من يمثلهم. ليس لديهم أي سلطة على الحكومة التي تتحكم في أوضاعهم المعيشية، إنهم يتعرضون لضغوط وعقوبات ما كان لهم أن يتعرضوا لها لو كانوا يهودا [...]"، وأضاف: "إن هذه الحالة لن تستمر دون أن يؤدي ذلك إلى انفجار".

ورغم أنّ هذا التحذير مثل ناقوس خطر من مستوى متقدم، إلا أن المستويين القيادي والاستخباراتي في دولة الاحتلال فشلاً في قراءة الغليان الشعبي في الأرض الفلسطينية حتى أواخر الثمانينات، والذي تراكم سواء للأسباب السياسية المتعلقة بالاحتلال والتهجير، أو المعيشية المتمثلة بتردي الأوضاع الاقتصادية والتمييز بين العمال الفلسطينيين وهؤلاء القادمين في اطار الهجرات الصهيونية المستمرة، أو التاريخية المتمثلة بسياسات الاحتلال والإحلال لمكون بشري على ارض شعب آخر; كان لسياسة الاحتلال المتمثلة باقتطاع 20% من مرتبات العمال الفلسطينيين لتمويل المصاريف العامة في دولة الاحتلال وخلافا لما اعلن عنه بشأن صرفها على الضفة والقطاع، دورها في هذا الانفجار.

اذاً، نحن أمام تاريخ يعيده المحتل، الاقتطاع من رواتب العمال بالأمس القريب والاقتطاع لجزء من أموال المقاصة الآن فيما يشكل تمييزًا جديدًا يضاف إلى سلة الإجراءات العنصرية الإسرائيلية، وتدخلاً في الشأن الداخلي الفلسطيني، ودفعًا بالاقتصاد الفلسطيني إلى الحضيض، وفشلاً في قراءة الغليان الفلسطيني، و/أو تجاهلاً لكافة التقارير الاستخباراتية والتحذيرات الرسمية والسياسية من انهيار وشيك نتيجة الغليان في الشارع الفلسطيني مضافا إليه البعد السياسي المتمثل بعدم انتهاء الاحتلال، والعبء الذي يمثله الانقسام، وتوجهات ترامب تجاه القدس المحتلة والجولان، وما تعلنه مستويات في سلطة الاحتلال من سعي لضم للضفة الغربية، وما يروج له من محددات غير واقعية لصفقة تسعى إلى حل الصراع القائم بإنهاء الوجود الفلسطيني، وخلق جغرافيات بديلة لوطن معروف.

وبالإضافة إلى ما يمثله هذا التصريح من وجود تمييز عنصري بين سكان دولة الاحتلال بناء على معطيات التفوق المدانة في قوانين وأخلاقيات العالم الحر والمواطنين الفلسطينيين، تضعنا تصريحات إيبان التي صدرت مكتوبة في حينها، أمام إعادة إنتاج للأسباب التي أوردتها المراجع التاريخية للانتفاضة، والتي تمثلت برفض الفلسطينيين "ما حدث لهم بعد حرب 1948، وبالذات التشريد والتهجير القسري وممارسات العنف المتصاعدة والإهانات والأوضاع غير المستقرّة، والرغبة بإنهاء الاحتلال، سيما وان أيًّا من شعوب العالم لم ترضَ باحتلال قوّة أجنبيّة للأرض التي يعيشون عليها منذ آلاف السنين".. فكانت واحدة من اقل الثورات ضد المحتل تكافؤا بالقوة وأكثرها صياغة للتاريخ والإعلام واللغة ومفهوم الحق في المقاومة.

إنّ دولة الاحتلال التي تقوم بتمويل الإرهاب الاستعماري في الضفة ليس فقط ببناء الوحدات السكنية للمستعمرين وخلق البنى التحتية مثل شوارع الفصل العنصري وإمداد المستعمرين بالسلاح والمال، بل وبتخصيص المساهمات المالية لدعم المتطرفين الإسرائيليين، مطالبة بدفع تعويضات يتم خصمها من المساعدات الأميركية السنوية المقدمة لها، لصالح الفلسطينيين عن احتلالها للأرض الفلسطينية وسرقتها للمياه والتاريخ والترويع والقتل، الخ.

الخصم التاريخي لـ20% من مرتبات العمال الفلسطينيين والخصومات الحالية من أموال المقاصة الفلسطينية تاريخ مكرر وإرهاب مستمر وفشل لدولة الاحتلال، وما أشبه اليوم حقا بالبارحة!!

نداء يونس