يبدو مألوفاً تحويل رواية ما إلى عمل مسرحي، أو مسلسل درامي، أو فيلم روائي، لكن من غير الدارج تحويل رواية إلى عمل راقص، لكن هذا ما فعلته مصممة الرقص اليونانية الشهيرة أناناسيا كانيلوبولو، وهي راقصة أيضاً، وعملت في عديد الفرق الأوروبية لقرابة العشرين عاماً، في عرضها الجديد "رحيل" (Exodus)، وعرض في اليوم الرابع لفعاليات الدورة الرابعة عشرة لمهرجان رام الله للرقص المعاصر، وتنظمه سرية رام الله الأولى.

والعرض، الذي انتظم فوق خشبة المسرح البلدي بدار بلدية رام الله، مساء أول من أمس، مقتبس عن رواية المجري لازلو كراسنزاهوركاي، بعنوان "حزن المقاومة" (The Melancholy of Resistance)، ففي العرض كما في الرواية الصادرة العام 1989، ثمة انعكاس لواقع يمكن وصفه بنوع من أنواع الانحلال الاجتماعي والأخلاقي، وكيفية التغلب على هذا الواقع بتعزيز القدرة على مقاومة الروح، مع حضور لافت وطاغ لرمزية شعورية عكستها أجساد الراقصين الستة، مناصفة بين الجنسين، ذات دلالات مناهضة للعنف الذي يحيط بنا، وكأن العمل صرخة من القلق حول مسار حياتنا عامة، والمسار الثقافي الفني على وجه الخصوص.

هذا العرض، الذي لا يخلو من ملل مرده سيرورته بطيئة الطابع، والتي هي انعكاس ربما لما في دواخل الراقصين، أو شخصيات الرواية - إن جاز التعبير - يتميز بقدرته المطاطية على محاكاة أكثر من واقع، ومنها الواقع الفلسطيني، حيث الحواجز العسكرية، والمعابر، وجدار الفصل العنصري، فهذا العمل الإنساني أو الكوني، يقوم على سؤال محوري، أو عدة أسئلة محورية بالأساس: كم عدد الحدود والجسور التي يجب أن نعبرها للوصول إلى الوجهة النهائية؟ ما عدد الجدران التي يتعين علينا كسرها، وعدد الدوائر التي يجب أن ننشئها للعثور على التاريخ المدفون؟ والنتيجة ربما تفيد بأن "حزن المقاومة" أو "صمتها" وفق بعض الترجمات، أو حتى التأويلات، شاخص الآن أمامنا بكل قسوته، ولكن أيضاً بما يميزنا من جمال، نحن جموع "المقاومين".

وهذه الأسئلة ترجمت في لوحات العرض الراقصة على مدار خمس وأربعين دقيقة، منذ المشهد الأول الذي تتحول فيها الحجارة المنثورة إلى سياج، وحتى المشهد الأخير الذي يهدم فيه أحد الستة التمثال الذي تشكل من هذه الحجارة، حتى اكتسب جزئية زائفة، مروراً بالاستخدامات المتعددة للحجارة، ومنها تلك التي تذكرنا بمشاهد تبدو مقتبسة ليس من رواية مجرية، بل مما كان يحصل في انتفاضة العام 1987، والتي لا أدري حقاً، إن كان الروائي المجري اقتبس منها روايته، أو عرف عنها بالأساس.

الأفعال الثورية القصيرة حد الفوضى، ومن ثم الفوضى التي تليها، تنحو باتجاه تدمير الذات في الوقت الذي يسعى فيه الراقصون إلى تجسيد شخوص الرواية الساعين لتحطيم الأنماط المجتمعية وحتى الفردية السائدة، ففي العمل فعل تمرد، لكن ارتداداته قد تكون كارثية، لكنه في النهاية فعل ثورة، عبرت عنه راقصة تؤمن بالثورة الفكرية، وتسعى لقولبتها على شكل أعمال تتجدد كل مرة.

وركز العمل لجهة تصميم الرقصات على القضايا المتعلقة بمفهوم الهوية بمختلف تكويناتها: العقائدية، والفكرية، والثقافية، والحضارية، وحتى الجنسية، وعلاقاتها المتشابكة حد الصدام أو التماهي باستسلام أو بوعي كاملين أو غير كاملين بالتطورات الاجتماعية والسياسية المحيطة، فكانت الصورة قاتمة، كسواد واقعنا الذي نعيش فيه.

في "صمت المقاومة"، يشير الكتّاب إلى أن عبث الفعل الثوري يقود الأبطال إلى تدميرهم النهائي، بينما تتطور اللوحات في "رحيل"، من خلال التعبير بالرقص والموسيقى المرافقة والديكور المحيط وحتى الإضاءة على الصراع الذي يصل حد استجواب الفرد بشكل مهيمن، وتحويل الواقع الاجتماعي إلى مجرد هياكل تبحث عن الخلاص، إما بالثورة أو بالاندماج.

يروي "رحيل" هذه الرحلة، حيث تكون الجثث في حالة يمكن وصفها بالتمرد التدريجي، هي التي تبني آثارها المتبقية، وتسعى إلى النبش عميقاً في تاريخ فردي أكثر منه جمعي.

وفي سياق مستمر من التطور الدرامي عبر العرض اليوناني، يجري التشكيك في مبنى المجتمع، ومفاهيم أساسية في تشكيله كالهوية والحدود، وكما أشرت، المقاومة، بل وحتى الانتماء، وهي مفاهيم لا تتبدل فحسب، بل ربما تتعطل أو تعطلت بالفعل، فالجسد هنا يبدو كجاسوس أو عميل علني تارة، وسريّ تارات، ليشكل، بالتالي، وسيلة ضغط عاطفية ترتفع وتيرتها مع كل دقيقة، بحيث يعاني الراقصون كما الجمهور، وبسبب إيقاع العمل الذي يسير أحياناً كسلحفاة، وما بين إيقاع الموسيقى الذي ليس أسرع بكثير، مع شيء من الصخب يطل برأسه بين فينة وأخرى، من توتر رهيب، وحالة من اللايقين، باتجاه تساؤل يبدو هنا أكثر محورية من سابقيه: كيف يمكن للناس أن يفجروا أو لا يفجروا ثورة؟!.