يتميَّز الرئيس أبو مازن بقدرته على اتخاذ القرار المناسب في اللحظة الأنسب، لا يتسرع ولا يستجيب للضغوط العاطفية وردود الفعل اللا منطقية اللا مدروسة، أو تلك المنفصلة عن الواقع، وفي هذا السياق يمكننا قراءة تكليفه الدكتور محمد اشتية بتشكيل الحكومة الثامنة عشرة.

اختار الرئيس رجل دولة بكل المقاييس، وبرؤية سياسية بعيدة المدى، وعلوم وخبرة اقتصادية، والتزام ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية وبتحقيق الثوابت الوطنية.

اختار الرئيس عضوا من اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني التي هي العمود الفقري لمنظمة التحرير كرسالة للعالم ليعلم أننا بدأنا فعلا مرحلة الانتقال من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة انسجاما مع قرارات المجلسين الوطني الفلسطيني والمركزي.

اختيار الرئيس للدكتور اشتية من رأس الهرم التنظيمي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني ليكون رئيسا للحكومة الثامنة عشرة يعني أن فتح قد قررت التحدي وتحمل المسؤولية الوطنية التاريخية التي لطالما كانت السباقة في حملها، فالخطر الداهم المهدد لوجودنا وجوهر قضيتنا والثوابت الوطنية والمشروع الوطني لم يعد يحتمل انتظار المترددين والرافضين حتى يصدقوا ويعوا حقائق المؤامرة التي تستهدف وجود الشعب الفلسطيني، ولا انتظار الانقلابيين الانفصاليين فهؤلاء لن يبلغوا الرشد والوعي الوطني أبدا.

الرؤية السياسية والالتزام بمبادئ حركة التحرر الوطنية والخبرة الاقتصادية والموقع التنظيمي للدكتور محمد اشتية رسالة للمجتمع الدولي، بان الشعب الفلسطيني لا يستبدل الحرية برغيف الخبز حتى لو كان محشوا بالذهب، رسالة مباشرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب ومبعوثيه، ولكل من يحاول تهجير فكرة التحرر والاستقلال والدولة المستقلة وعاصمتها القدس من عقول الفلسطينيين، ولكل من يسعى لتسويق قضية الشعب الفلسطيني وكأنها مجرد مشكلة إنسانية يمكن حلها بالرفاه الاقتصادي، ولإبلاغ العالم أن "حماس" التي رضيت بحقائب الدولارات المليونية وبالمساعدات وسيلان السولار مقابل إبقاء سكين انقلابها الدموي مغروزة في قلب المشروع الوطني، والشد عليه حتى قطع جسد الدولة الفلسطينية إلى جزأين ليست إلّا حالة فطرية مؤقتة فرضتها دولة الاحتلال (إسرائيل) وقوى إقليمية ساهمت في رعايتها وتنميتها ومدها بأسباب الحياة لتطغى على المشهد الفلسطيني وأهداف الشعب الفلسطيني الحقيقية.

نجحت "فتح" في تحديات كثيرة أولها اطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وخط أسطورة الصمود في معركة الكرامة في 21 آذار من العام 1968 التي فتحت آفاقا للشعب الفلسطيني وللأمة العربية وللأحرار في العالم للانطلاق نحو جبهة التحدي والمواجهة مع القوى الاستعمارية وقواعدها الارتكازية في العالم وفي مقدمتها (إسرائيل) عبر مرحلة الكفاح والعمل الفدائي، ونجحت "فتح" في تحدي استقلالية القرار الوطني المستقل فعززت رؤية ومواقف رئيس منظمة التحرير أحمد الشقيري حتى باتت المنظمة بمثابة الوطن المعنوي للفلسطينيين، وانتصرت فتح في معارك على جبهات افتعلتها أنظمة عربية ومنعتها من احتواء النضال الفلسطيني وتوجيهه أو توظيفه لخدمة أجنداتها، ونجحت "فتح" في تحويل سلطة الحكم الذاتي إلى سلطة وطنية فلسطينية، ونجحت بتثبيت الوضع القانوني لفلسطين وعاصمتها القدس في القانون الدولي.

يجب التذكير بان كل نجاح وانتصار لم يأت بالدعاء، وإنَّما بالصبر والصمود والعمل الشاق على تغيير الوقائع، أما الأثمان فكانت آلاف الشهداء والأسرى والجرحى وحصارات مالية وسياسية واغتيالات طالت قادتها في المركزية وكوادرها المتقدمين، ويكفي فتح فخرا أن رئيسها وقائدها رئيس الشعب الفلسطيني ياسر عرفات أبو عمار قضى شهيدا على درب تمسكه بالثوابت الوطنية، ولأنه رفض التنازل عن القدس، ويحق لكل مناضل وطني فلسطيني الشعور بالفخر والعزة والكرامة التي تبعثها مواقف الرئيس محمود عباس أبو مازن ولاءاته الكبيرة في وجه البلفوري الجديد دونالد ترامب، لاءات جاءت بحجم الشعب الفلسطيني العظيم تعبيرا عن تمسكه بحقوقه التاريخية والطبيعية، وكذلك لاءاته القوية الصريحة بوجه نظام تل أبيب العنصري الاستعماري الاحتلالي، ولعل آخرها وأحدثها ما شهدناه من وفاء للشهداء والأسرى عندما وجه الحكومة برفض استلام أموال المقاصة منقوصة من قيمة المخصصات الشهرية التي تدفعها الحكومة الفلسطينية لعائلات الشهداء وللأسرى فجسد بذلك المعنى الحقيقي لقيم مبادئ حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، والتي من دون هذا الوفاء لا معنى لها ولا معنى للاستقلال والحرية أيضًا.

ستنتصر فلسطين وستنجح هذه الحكومة لأن فتح لا تدخل المعارك المصيرية للدفاع عن ذاتها كتنظيم، وإنما لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، فكل مناضل فيها ابتداء من رئيسها وقائدها العام على رأس الهرم وحتى العضو في الخلية والنصير مؤمن أن مصيره مرتبط بمصير وطنه فلسطين الشعب والأرض، فهو يؤدي قسم الإخلاص لفلسطين أولا وأخيرا.

ستنجح الحكومة لأن العقل المدبر لها على دراية تامة بكيفية تحقيق التوازن المطلوب أثناء القيادة على سكتي التحرير والبناء، فمهماتها المدونة في كتاب التكليف لتكون على سلم أولويات الحكومة قد بينت الأسس الاستراتيجية لبرنامج هذه الحكومة التي ستعمل على مساندة قرارات القيادة، حيث في البند الأول استعادة الوحدة الوطنية وإعادة غزة إلى حضن الوطن، أمَّا الثاني فإجراء الانتخابات التشريعية في الوطن ثم ترسيخ الديمقراطية والتعددية السياسية، فيما الثالث نص على تقديم الدعم المادي لضحايا الاحتلال ذوي الشهداء والأسرى والجرحى أما الرابع فتضمن الصمود وبقاء الشعب على ارض وطنه فلسطين ومواجهة سياسة الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي، وأتبعه بالبند الخامس بالدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، فيما نص البند السادس على النهوض بالاقتصاد الوطني وبناء مؤسسات الدولة واستقلال القضاء وسيادة القانون وحماية الحريات العامة، وسابعا تعزيز الشراكة بين القطاعين الخاص والعام والمسؤولية التضامنية لاستكمال معركتي البناء والتحرير.

كتب اشتية في رسالته للرئيس بعد صدور مرسوم التكليف: "افهم منك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بالحرية والكرامة وعزة النفس وتحمل الآخر والنقد والروح الإيجابية في التعاطي مع مشاكل الناس وهمومهم وخاصة في قطاع غزة والقدس والشتات". وكتب أيضًا: "إنَّ استعادة الإشعاع الديمقراطي لشعبنا وتوسيع الحريات العامة واحترام الإنسان وتعزيز اقتصادنا الوطني واستثماراتنا وخلق فرص عمل للشباب ومكافحة الفقر هي عناصر رافعة لإنجاز الاستقلال ودحر الاحتلال ومتطلبه الرئيس إنهاء الانقسام وعودة قطاع غزة إلى اطار الشرعية الفلسطينية ورفع المعاناة عن أهلنا هناك".. لكنه كان قد قدم فقرة قبل هذه كتب فيها: "إنَّ وحدة الأرض والشعب والمؤسسة والنظام السياسي والشرعية الواحدة والقانون الواحد ورفع المعاناة عن شعبنا من اجل دحر الاحتلال هي اهم عناصر كتاب التكليف".

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هل يختلف فلسطينيان وطنيان على هذه المحاور الاستراتيجية لمهمات الحكومة الثامنة عشرة؟! بالتأكيد لا، فهي من صلب البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، أمَّا معركة الوجود فلا مجال فيها للمتفرِّج والحيادي والمتردد والرافض، فإمَّا الانخراط فيها بلا شروط والتنافس في أداء المهمات الأصعب لصالح الشعب، أو الركون على هامش الزمان والمكان، لكن يجب ألّا يتفاجأ المنسحبون من المعركة من حكم الشعب والتاريخ عليهم ولو بعد حين، لكن هذا المصير لا يريده ولا يتمناه الوطني الحقيقي للشركاء في الوطن، لذا فقد كتب أبو إبراهيم في رسالته للرئيس: "يشرفني قبول تكليفكم لي رئيسا لوزراء حكومتكم التي نأمل أن ننجزها بالتشاور مع كل من له علاقة من فصائل – لاحظوا مصطلح فصائل - وقوى وفعاليات وطنية ومدنية ومجتمعية ومن ثُمَّ عرضها عليكم للإقرار والمصادقة".