بعد أن قضت المحمة الدستورية أعلى هيئة قضائية فلسطينية بحل التشريعي الفلسطيني بات المشهد الفلسطيني أمام استحقاق انتخابات عامة تمكن المواطن الفلسطيني من استعادة إرادته الوطنية واختيار ممثلية في التشريعي والرئاسة والمجلس الوطني حتي لو لم تجرِ الانتخابات معًا، لأن التوجه اليوم يأتي لانتخاب برلمان وطني فلسطيني يقود مرحلة الدولة، فلا يعقل أن تبقى البلد بلا مجلس برلمان ويبقى الفلسطينيون يتفاوضون حول كيفية التوافق على إجراء هذه الانتخابات.

إنَّ قضية التوافق على الانتخابات أمر في غاية التعقيد، لكنّه في غاية الأهمية وأول هذا التوافق يجب أن يكون على قبول وجود حكومة وطنية تهيّئ للانتخابات وتشرف عليها وتُنظّمها وتحميها من العبث وتوفر لها الدعم الطلوب. والتوافق على حكومة أمرٌ في غاية التعقيد لأنّ "حماس" لا توافق على حكومة "فتح"، ولا توافق على حكومة فصائل، واذا وافقت على حكومة وحدة وطنية لن توافق "حماس" على برنامج الحكومة الذي هو برنامج "م.ت.ف"، وبالتالي نحن أمام متاهة متعددة المسارات اجتيازها يحتاج خارطة، وهو تنفيذ اتفاق 2017 بكافة بنوده دون تلكك ومماطلة لنخرج من الطريق المسدود الذي وصل إليه جميع الأطراف في المشهد الفلسطيني.

بعد وصول رئيس لجنة الانتخابات المركزية حنّا ناصر إلى غزة وإجراء مشاورات مع "حماس" والفصائل لتنفيذ الانتخابات وترحيب "حماس" بذلك، بات مهمًا أن يُطرح السؤال الذي يجول في رأس كل فلسطيني، وحتى على المستوي النخبي: هل بالفعل ستشارك "حماس" في الانتخابات التشريعية القادمة أم أنَّ ترحيبها ترحيب تكتيكي ليس أكثر؟ الإجابة المنطقية لهذا السؤال تقول نعم ستشارك "حماس" في هذه الانتخابات لأنَّها شاركت في الدورة الثانية للانتخابات وفازت بالأغلبية، وهذا ما يجب أن نتوقّعه من خلال دخول الحركة مربع السياسة أكثر منها مربّعات أخرى بعد الإعلان عن وثيقتها التاريخية وقبولها بدولة فلسطينية على حدود العام 1967، وبالتالي تقبل بتسوية مع (إسرائيل) على هذا الأساس وهنا يأتي سؤال آخر: كيف لحماس أن تشارك في الانتخابات دون أن تسمح لحكومة وطنية بالإشراف على الانتخابات في غزة؟! وخاصة أنَّ الرئيس أبو مازن لن يقبل أن تجري الانتخابات في غزة من دون وجود حكومة فلسطينية شرعية تهيّئ وتحمي العملية الانتخابية.

لا تستطيع "حماس" رفض المشاركة في الانتخابات القادمة لأنَّها قد تُتّهم بتكريس الانفصال السياسي والجغرافي وأخذ غزة إلى مربع صفقة القرن والتماهي مع المشاريع الأمريكية، ولا تستطيع "حماس" رفض المشاركة في أي انتخابات قادمة لأنّها تريد رد الاعتبار لذاتها التي تأثّرت بفعل قرار الدستورية، لكن موافقة "حماس" تصطدم باستحقاقات مهمة وهي الموافقة على تعديلات قانون الانتخابات، وخاصة المادة 45 فقرة (6) التي تقول إنَّ من سيترشّح للبرلمان الفلسطيني عليه الاعتراف بأنَّ منظمة التحرير الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والاعتراف بوثيقة إعلان الاستقلال وأحكام القانون الأساسي الفلسطيني، وهذا يتطلَّب مزيدًا من الدراسة لـ"حماس" لأنَّ هذه المادة تعني التزام "حماس" بكلِّ ما تلتزم به منظمة التحرير الفلسطينية، ولا تستطيع البقاء في مربع خارج مربع المنظمة، وبالتالي خوض الانتخابات.

"حماس" باتت أمام احتمَالين؛ المناورة لأبعد الحدود، أو الإعلان رسميًّا عن قبول الانتخابات وقبول قدوم أي حكومة فلسطينية تنظِّم هذه الانتخابات وتشرف عليها في غزة بالتساوي مع الضفة والقدس. والواضح أنَّ "حماس" لا تستطيع الاستمرار في حكم غزة بعيدًا عن السلطة ولا تستطيع تجاهل الانتخابات القادمة وعدم المشاركة فيها وهذا مأزق كبير. خاصة أنَّها تعرف أنَّ مناورتها ضمن أُفُق ضيق لأنَّ صبر محمود عبّاس نفذ وملّ من المماطلة ولن ينتظر أكثر من ذلك، وسينفّذ الانتخابات بالطريقة التي تُقرّها لجنة الانتخابات وتوافق عليها الحكومة الفلسطينية سواء قبلت "حماس" بالمشاركة أم لم تقبل. "حماس" باتت اليوم في موقف لا تُحسَد عليه في مأزق حقيقي، وتعرف أنَّ لا مفرَّ أمامها سوى المشاركة في الانتخابات القادمة، وإلا اتّهمت بإنشاء نظام سياسي بديل تسعى من خلاله لإنشاء دولة فلسطينية في غزة، وهذا أخطر ما يمكن أن تُتَّهم به، لذلك فإنَّ "حماس" الآن أمام خيارين لا ثالث لهما. إمَّا أن تقبل بخوض الانتخابات على أساس تغيرات قانون الانتخابات الفلسطيني وتعترف بالمنظمة وتلتزم بالتزاماتها وتقبل بتسليم غزة لحكومة الرئيس أبو مازن لتجهز للانتخابات، وإمَّا أن تصطدم بالحائط وتؤسّس لنظام سياسي ثانٍ في فلسطين، وهذا مستحيل من دون دعم وتأييد إقليمي ودولي.

ليس وحده باب المناورة يضغط على "حماس"، بل أيضًا الوقت الذي إن طال ليس في صالحها، وعليها أن تُحدّد خياراتها. فإمَّا أن تأخذ غزة إلى مشروع منفصل تريده (إسرائيل) وهذا أخطر على "حماس" من قبول المشاركة في الانتخابات، لذلك فهي الآن أقرب إلى قبول الانتخابات القادمة حسب المرسوم الرئاسي لأنَّ لا مفر أمامها سوى هذا المسار فهو آمن وأقل تكلفة، وإن قبلت فلا أعتقد أنَّها ستقبل حكومة تحضر إلى غزة لا تكون مشاركة فيها، وإن قبلت لن تسمح للحكومة بالعمل وستعيق عملها وستعمل على إفشال الانتخابات بقرار من اللجنة المركزية.

أمَّا اذا وافقت على كلِّ هذا فإنَّها لن تخوض الانتخابات منفردة بل في إطار حلف يضم فصائل منظمة التحرير التي تأخذ مصروفها منها، بالإضافة إلى تيار دحلان الذي يعتبر هذه الانتخابات شهادةَ حياةٍ أو موت له، لكنَّ "حماس" عليها أن تدرك أنَّها تهرب من عبّاس لتقع في شرك دحلان، لهذا فإنَّ "حماس" في مأزق بسبب الانتخابات وخروجها منتصرة أمر مستحيل دون أن تدفع ثمنًا، إمَّا للإقليم ودحلان والإسرائيليين، أو لأبو مازن في المقابل، وهذا أكثر صعوبة بعد حملاتها الأخيرة وحرقها لكل السفن التي تعيدها للشرعية.