افتتاحية مجلة القدس العدد 352 شباط 2019

بقلم: الحاج رفعت شناعة

لماذا يتعمَّدُ البعض تطبيق ثقافة الاختلاف، وتقديس التناحر والتباين حتى في أكثر القضايا قدسيةً على صعيد الانتماء الوطني، والوجداني، والأخلاقي، والمصيري المتعلِّقة بوجود ومستقبل شعبنا، الذي حدَّد خياراته الاستراتيجية منذ انطلاقة ثورته الكفاحية، وبدء حرب التحرير الشعبية .

منذ بداية تشكُّل الوعي الوطني، والإيمان المطلق بأنَّه لا خلاصَ من الاحتلال الغاشم إلَّا بتكريس الوحدة الوطنية، وتجسيد الأهداف السياسية التي تخدمُ القضية الفلسطينية، باعتبار فلسطين وحُريتها أكبر وأعظم من كافّة الانتماءات الحزبية، أو القناعات الفئوية، أو التشرذمات المزاجية، وذلك لأنَّ ما يجمعُ الشعب الفلسطيني، ويوحِّد صفوفه، ويحقِّق تطلُّعاته وآماله المستقبلية إنَّما هي قيمٌ، وأهدافٌ مقدَّسةٌ ومباركةٌ لا تخضعُ إطلاقًا لحسابات البيع والشراء، فهي في غاية الوضوح، فالشعب الفلسطيني متجذَّر في أرضه منذ آلاف السنين، والمقدساتُ في أرضنا وفيها صلَّى الأنبياءُ، والترابُ مجبولٌ بدماء وعظام آبائنا وأجدادنا، ونحن حراسُ الأرض منذ أجدادنا الكنعانيين. وهذه الدماءُ الزكيةُ التي تخضَّبت بها الأرضُ على امتداد السنين وصولاً إلى عصرنا عصر ثورة البراق، ومعركة القسطل، وثورة العام 1936، وثورة الفتح والطلقة الأولى، ومعركة الكرامة، وقيامة منظمة التحرير الفلسطينية، الأُم الشرعية للكفاح الوطني للشعب الفلسطيني، وهي الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني أينما كان في الداخل وفي الشتات، وهي أيضاً البيت الدافئ لكلِّ مَن ينتمي إلى فلسطين، لأنَّها هي حاضنة الكفاح الوطني الفلسطيني، وهي حافظةُ تاريخنا، وأمجادنا، وهي الأحرصُ على تراثنا الثوري، وعلى سجلات شهدائنا التي تنضحُ بالكرامة والاعتزاز .

نعم منظمة التحرير الفلسطينية هي الأُمُّ الأحرصُ على مسيرتنا، وهي فوق الشبهات، لأنّها هي التي أعادت رسم الخارطة الفلسطينية على خارطة العالم، بعد أن استباحت وحدةَ أرضنا العصاباتُ الصهيونية بعد الانتداب البريطاني، وبعد هجرةِ شُذّاذ الآفاقِ إلى أرضنا المقدّسة تنفيذًا لوعد بلفور، واتفاق سايكس بيكو، ومؤامرة التقسيم الدولية التي سرقت أرضنا لتمنحها للعصابات الصهيونية لإقامة الكيان الصهيوني المسخ، وحرمان شعبنا من أرضه، أرض آبائه وأجداده منذ أكثر من خمسة آلاف سنة .

نعم هي منظمة التحرير الفلسطينية التي احتضنت أبناءَها، وثُوّارها، وأهلها المشرَّدين في الخيام في الداخل وفي الشتات، لتُعيد تجسيدَ كيانهم السياسي، وبناء شخصيتهم الوطنية، وفرض حضورهم كشعبٍ مكافح له جذوره وأعماقُه في أرض الوطن، وعلى الخارطة السياسية الدولية .

بفضل "م.ت.ف" عادت منظمةُ التحرير الفلسطينية وهي تحتضنُ أبناءَها، وتبلسمُ جراحَهم، وتصنعُ لهم مستقبلهم، وتخوضُ بهم ساحات التحدي، والصراعات التي امتدَّت منذ تشكيلها العام 1964 برئاسة المرحوم القائد أحمد الشقيري الذي رعى وواكب انطلاقة حركة "فتح" والفصائل الفلسطينية، إلى أن أينعت زهورُ الثورة، وانتصبت بنادقُ ومدافعُ الثوّار في الجبال، والغابات والسهول والوديان، وسلَّم الأمانة إلى الرمز ياسر عرفات لاستكمال مسيرةِ الثورة التي بهرت العالم، وهزَّت أركان الصهيونية، وأرعبت الكيان الصهيوني في كل بقاع الوطن، فارتعدت وارتجفت فرائص وقلوب قادة الإرهاب، وقتَلَة الأطفال، ووقفوا مذهولين مرتعبين من جُثَّة دلال المغربي الغارقة في دمائها، وكأنَّها تقول لهم بعينيها المفتوحتين سنلاحقكم أينما كنتم، فالأرضُ أرضنا، والتراب نسقيه بدمائنا، لأنّه مجبولٌ برفات أجدادنا وآبائنا .

نعم هي منظمة التحرير الفلسطينية التي تختزنُ في ذاكرتها وفي قلبها الكبير سجلات الشهداء، وملفات الأسرى، وتاريخ بطولات الجرحى .

في هذا البيت الوطني الفلسطيني المخضرم الذي بناهُ العظماء من قادة الشعب الفلسطيني من مختلف التيارات الوطنية، واليسارية والقومية، والشيوعية، ومنهم مَن كان يحمل قناعات عقدية دينية، إسلامية أو مسيحية، ومن كل جنسياتِ الأمم، وكلّهم ضحوا، وقدَّموا أرواحهم، أو دماءَهم، وأعمارهم من أجل فلسطين، ومن أجل القدس والأقصى وقبّة الصخرة، والمسجد الإبراهيمي، ومن أجل كرامة كنيسة القيامة، وكنيسة المهد حيث ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام.

بمعنى أوضح، إنَّ "م.ت.ف" بمضمونها الوطني، وأبعادها السياسية، والعالمية، والدينية، ليست تنظيمًا كباقي التنظيمات، وإنَّما هي الأم التي أرضعت هذه الفصائل حليبَ العزةِ والكرامة، والأُخوَّة والتآخي، وصناعة الوحدة مهما اشتدَّ التباين، وحماية القرار الوطني المستقل مهما كانت التحديات والضغوطات، لأنَّ القرار المستقل هو ضمير العمل الثوري، وهو الذي يصون كرامةَ الثورة والثوّار، فالثورةُ لا تؤجَّر، ولا تُباع لأنَّ قرارها مكتوبُ بالدماء، دماء الشهداء.

على الجميع أن لا ينسى، ولا يتناسى بأنَّ العالم اليوم بأسره - باستثناء بعض الحاقدين – يعترف بأنَّ "م.ت.ف" هي الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي الحركة الثورية الوحيدة في العالم التي تمَّ الاعتراف بها رسميًّا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وهي المكلَّفة رسميًّا من خلال هذا الاعتراف الدولي بمتابعة حقوق الشعب الفلسطيني لحين يتم الاستقلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شُرِّدوا منها العام 1948، والعودة استنادًا إلى القرار الدولي 194 .

هذه هي القيمة الفعلية والوطنية والفلسطينية والثورية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي اكتسبت هذه الحصانة السياسية الدولية. وتحت مظلة "م.ت.ف" خضنا كشعب فلسطيني، وكثورة فلسطينية رائدة صراعنا المتواصل، ضد العدو الإسرائيلي وعدوانه، واستيطانه، ومجازره، ومؤامراته التي لم تتوقَّف حتى هذه اللحظة لتطبيق قراراتها العنصرية الصهيونية على أرض فلسطين، ومحاولة تزوير التاريخ والادّعاء بأنَّ أرض فلسطين التي ورثنا العيشَ فيها منذ خمسة آلاف سنة، هي أرضٌ مقدّسة لهم، وليس هناك أيُّ مستند تاريخي لديهم، وإنَّما هم يعملون على جبهتَين؛ جبهة تزوير التاريخ، وثانيًا جبهة الاستيطان للأرض، وتهويد المقدسات، وتهجير الأهالي واقتلاعهم من بيوتهم، أي باختصار التصفية الوجودية للكيان الفلسطيني الوطني والسياسي، مدعومين وبشكل عنصري فاضح من ترامب الصهيوني وعملائه، وهو الذي يعتبر همَّه الأول اليوم وقبل أن تنتهي الجولة الأولى من الرئاسة تدمير كل ما له علاقة بالوجود الفلسطيني، السياسي أو الديني أو الوجودي على أرض فلسطين .

ومن أجل ذلك نُذكِّر الأطرافَ الفلسطينية وغير الفلسطينية المتحاملة على منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تسعى إلى تشويهها وتشويه صورتها، وصورة قيادتها تحت مبرّرات متعدّدة لإظهار أنَّها لا تمثِّل كلَّ الشعب الفلسطيني، نقول لها وبكل مصداقية هذا الادّعاء لا يخدمُ فلسطين، لأنَّ العدو الإسرائيلي أيضًا ومنذ لحظة الاعتراف الدولي بالمنظمة هو يسعى جاهدًا لتدمير المنظمة سياسيًّا، وبنيويًّا، من أجل تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني، ونتنياهو اليوم يعتبر أنَّ التخلُّص من منظمة التحرير الفلسطينية، ونزع الغطاء السياسي عن الشعب الفلسطيني، هو المدخل الوحيد لتدمير القضية الفلسطينية .

لذلك علينا أن نتقي الله، وأن نرحم شعبنا، وأن نحافظ على تراثه الوطني، وعلى أحلامه بالاستقلال والحرية والصلاة في الأقصى. وعلينا كفصائل أن نكون أوفياء لدماء الشهداء بأن نجسِّد وحدتنا الوطنية، وأن لا نكون دمىً بأيدي من يضمرُ لنا الشرَّ، ويحلُم بأن يرانا منقسمين ومتصارعين، يقتلُ بعضُنا بعضًا، بينما عدونا الصهيوني الكافر، والحاقد، والمجرم يُنفِّذ مشروعه الدموي بحقنا، وبحق أهلنا، ومقدساتنا .

ونقولها بشكل واضح إنَّ الإصرارَ على عدم الوصول إلى المصالحة رغم الدماء التي نزفت في الساحة الفلسطينية، ورَفْضَنا تلبية نداء ومساعي المصالحة سواء في مكة، أو في القاهرة، أو في قطر، أو في روسيا مؤخّرًا وهي من الأطراف الدولية الصديقة لشعب فلسطين كان شيئًا مؤلـمًا، خاصّةً أنَّ مؤامرات دولية وإقليمية وصهيونية تُهدِّدُ وجودنا. فماذا ننتظر؟؟!

إنَّ الفصائل التي أصرَّت على إيجاد المبرّرات لاستمرار الخلاف والتمسُّك بالانقسام، عليها أن تعيد حساباتها رحمةً بشعبٍ استمرَّت معاناته سبعين عامًا، وتواصلت ثورته أربعةً وخمسين عامًا بدون توقُّف، فإلى أين نحن ذاهبون؟؟!!

لقد يئِس اليأُسُ منّا. ولم يبقَ إلَّا أنتَ يا ربّنا فاهدِنا سواء السبيل.