ثلاثة أجيال من خرّيجي الجامعات في قطاع غزة لم تحظ بفرصة المشاركة في انتخابات طلابية، والجيل الرابع على الطريق. هذه كانت إحدى ملاحظات الزميل الكاتب والباحث شفيق التلولي في دراسته لنيل شهادة الماجستير عن واقع الحركة الطلابية في قطاع غزة خلال الانقسام. وهي ملاحظة بسيطة لكنَّها تكشف الكثير. الدراسات تتناول الكثير من تأثيرات الانقسام على العمل الطلابي الذي يكاد يكون معدومًا وفي أحسن الحالات ينحصر في سياق المناكفات السياسية التي تنتقل من الشارع والحقل الأوسع إلى قاعات الجامعة. النتيجة أنَّ الجامعة هي الضحية والطالب يحرم من حياة طلابية صحية خالية من المشاكل والأزمات، تساهم فيه تعزيز تحصيله العلمي وتوسيع مداركه. فالحياة الجامعية ليست قاعة الدراسة فقط، إذ إن ما يكتسبه الطالب أو الطالبة خلال فترة التعلم من خلال التفاعل مع الحياة الجماعية وما تفتحه أمامها من آفاق أكثر ربما بكثير من دفتي الكتب، بل هي كتب أخرى.

كنت أفكر في تلك الملاحظات التي تُعيد بقسوة سؤال الانقسام وتشير بإصبع الاتهام إلى ما يجري من صمت على استمراره وعمل على تخليده. كنتُ أفكر في ابني البكر الذي حدث الانقسام وهو في عامه المدرسي الأول، ثم ها هو سيتقدم لامتحانات الثانوية العامة هذا الصيف والانقسام سيد المشهد. وربما يدخل الجامعة خريف هذا العام ويتخرج منها والانقسام انقسام. لا توجد ضمانة بأنَّ شيئًا من هذا قد ينتهي، كما لا توجد ضمانة أنَّ التغير يلوح في الأفق. سيدخل ابني الجامعة ويتخرَّج منها مثل عشرات الآلاف الذين أشارت إليهم دراسة الزميل شفيق دون أن يعرف كيف يمارس الطالب حقّه في اختيار كتلته النقابية التي تمثّله وتدافع عن حقوقه. صحيح أنَّ ثمةَ تسييسًا عاليًا في الواقع الطلابي، وأنَّ جُلَّ عمل الأُطر الطلابية ممارسة مهام سياسية بوصفها أذرعًا طلابية لتنظيمات سياسية، لكن حتى ضمن هذا التفسير فإنَّه سيحرم من ممارسة حقه في التعبير عن ولائه السياسي مثلما حُرِمَت أجيال سابقة بسبب الانقسام. علاوة على حرمان الشعب بشكل عام من ممارسة حقه في التعبير عن رأيه في الخلاف القائم من خلال منع تنظيم الانتخابات.

وفكرتُ أيضًا في أطفالي الذين عاشوا ثلاثة أنواع ومستويات من العدوان التي يجازف البعض بلاغيًا بإطلاق حرب عليها في تبنٍّ لخطاب دولة الاحتلال، لأنَّنا شعب يُعتدَى علينا ولا نخوض حربًا بل ندافع عن أنفسنا، ولأنَّنا لم نحرر شبرًا حتى من غزة، وفق القانون الدولي، بل ما زلنا شعبًا عن تحت الاحتلال والحصار نظريًا وعمليًا، أطفالي الذين عاشوا كلَّ تلك الويلات تحت الحصار لا يعرفون مثل أكثر من نصف سكان قطاع غزة شكل العالم خارج الحدود. وكانت المرة الأولى التي رأوا فيها الحدود حين ذهبنا خمستنا إلى السلك الشائك في الثلاثين من آذار في أول أيام مسيرة العودة. وكانت طفلتي يافا تعتقد أنّ مدينتنا يافا التي سميت على اسمها تقع خلف الحدود مباشرة في استفسار بديهي لمعنى العودة.

بالعودة إلى الواقع الطلابي المعدوم في قطاع غزة والحياة الجامعية الغائبة، بل المغيبة بقرار الأمر الواقع، وما يتعرَّض له قادة الحركة الطلابية من اعتقال وترهيب ومنع، وفي الكثير من السياقات السماح لطرف ومنع الأطراف الأخرى، فإنَّني أشعر بالأسى على الطلاب والطالبات الذين لا يتمتعون بأي شيء من هذا العالم الثري والخصب الذي كان يمكن أن يُوفِّر لهم نوافذ عديدة يعبرون فيها إلى عوالم أخرى أوسع وأرحب، لكنَّهم للأسف محرومون من ذلك وتكاد تنحصر حياتهم الجامعية في المحاضرات والامتحانات. وهذا يجعل الحياة مملة صدقوني.

أتذكرُ اليوم الأول لي في جامعة بيرزيت كان ذلك قبل أكثر من 28 سنة تقريبًا. حياة طلابية مفعمة بالمستقبل مشبعة بالتفاصيل. الكثير الكثير الذي يمكن فعله والذي تمَّ فعله. لكن على الصعيد الطلابي كانت انتخابات جامعة بيرزيت فرصة كبيرة لحياة جديدة. كتل طلابية تتنافس بحدة وبرامج نقابية وسياسية يتم طرحها من أجل إقناع الطالب بالتصويت لهذه الكتلة أو تلك. من لم يعش هذه اللحظات حُرم من الكثير من الحياة الجامعية. لم يكن الأمر مقصورًا على بيرزيت، بل كذلك كان الأمر في كل الجامعات الموجودة في فلسطين. لكن ربما أنّ لبيرزيت خصوصية ما ظلَّت تعتمل في الوعي الجمعي الفلسطيني حتى اللحظة، الوعي الذي يجعل خبر انتخابات مجلس طلابها حتى اليوم خبرًا رئيسًا في الأخبار المحلية.

الجامعة تحضر الطالب للمستقبل. فالطالب الذي يمارس حياته الديمقراطية في الجامعة كل سنة يكون مواطنًا صالحًا يمارس حقه بعد ذلك وخلاله في الانتخابات العامة. من هنا الطامة الكبرى؛ فبدلًا من أن تكون الجامعات حاضنات للبناء السياسي الديمقراطي من خلال تجهيز طلابها وطالباتها للحياة العامة، فإنَّها تخنق تطلعاتهم لحياة عامة متفاعلة يشتركون فيها في صناعة مصيرهم. من هنا فإنَّ أثر الانقسام على الحركة الطلابية مركب، فهو يعطل الحياة الطلابية، وعلى مدى بعيد فإنَّه يخنق فرص تطوير مواطن صالح قادر على إثراء الحياة السياسية. لذلك ليس عجبًا الدور الذي قامت فيه الحركة الطلابية في تقديم رموزها قادة للحركات السياسية.

من المحزن أنَّ هذا الحرمان يتم في غزة، فجامعات الضفة الغربية تجري فيها الانتخابات ويسمح للكتلة الإسلامية التابعة لـ"حماس" أن تشارك وتتحصّل على حجمها في كل جامعة، فيما تحرم حركة "حماس" الطلاب والطالبات في غزة من التمتّع بهذه النعمة. مبادرات كثيرة تمَّت لجعل الجامعة مدخَلًا لتخفيف وطأة الانقسام من خلال تنظيم انتخابات فيها، كان أبرزها مبادرة النائبين السابقين المجدلاوي والخضري، لكنها كلها ذهبت أدراج الرياح أمام عجلات الانقسام القاسية، ومن هنا يجب إعادة التفكير الجدي في فرص إعادة الجامعة للجامعة وإعادة الحياة لها.