كنا نعتقد أن أوروبا، أو ما بات يُطلق عليها القارة العجوز، قد تجاوزت عصر الثورات، وأنّها مع اتحادها تقوم بتنظيم نفسها وتتطور بهدوء.

وكنا نعتقد أنّ أوروبا قد تأقلمت مع العولمة إلى أنّ جاءت موجة الاحتجاجات الفرنسية الأخيرة لنقف ونعيد حساباتنا.

وبغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي معها موجة الاحتجاجات المشار إليها فإنّها قدّمت الكثير من المؤشرات والملامح أن فرنسا تتغيّر وأنّ أوروبا هي الأخرى تتغيّر. وعلى ما يبدو أن قدر فرنسا أن تقوم أو تكشف عن التحولات الكبرى، فالثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر لم تغير فرنسا وأوروبا وحسب بل غيرت العالم، وغيّرت القِيَم والمفاهيم ومنظومة الفكر الإنساني بمجملها. فهذه الثورة أدخلت أوروبا إلى عصر الحداثة، هذا العصر الذي أعطى العقل والعلم السمو، وقدَّم العلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، كمدخل لبناء نظم سياسية ديمقراطية لا تستمد شرعيتها من الدين بل من المجتمع عبر عقد جان جاك رسو الاجتماعي.

ولا ننسى في السياق مدى تأثير كومونة باريس التي قدَّمت نموذجًا لدكتاتورية البرولتاريا الماركسية، أي سلطة الطبقة العاملة المطلقة، وأخيرًا ثورة الطلاب عام 1968 في باريس والتي أسقطت حكم ديغول وأعطت الدليل على نظرية الفيلسوف هربرت ماركيز بأنّ الطبقة العاملة لا تحتكر وحدها عملية التغيير في العصر الحديث.

على أيّة حال ما جرى في فرنسا حتى الآن يكفي لنرى الشكل والمضمون الجديد للقارة العجوز التي تثبت مرة أخرى أنّها لا تزال مركز التغيير في العالم. إنّ ما نراه اليوم هو أوروبا ما بعد العولمة، أوروبا التي تتلاشى فيها البنى السياسية التقليدية لتحل محلها بنى جديدة.

الكيفية التي فاز بها ماكرون نفسه في انتخابات الرئاسة كانت بحد ذاتها مؤشر لهذه التحولات عندما غابت عن المشهد السياسي الأحزاب التقليدية القديمة وحلّت محلها قوى جديدة. ثورة الستر الصفراء التي تتحرك من تلقاء ذاتها هي دليل على بروز قوى جديدة في أوروبا لم تعد محكومة لقواعد اللعبة السياسية القديمة أحزاب يسارية ويمينية ووسط ونقابات تتحكم بالمشهد السياسي. إنَّ ما نراه هو نتائج للعولمة ولكن تقدم لعصر ما بعد العولمة، ما نراه هي محاولة الطبقة الوسطى للحفاظ على وجودها ومصالحها وهو الوجود والمصالح التي هدّدتها العولمة عبر الشركات متعددة الجنسيات العابرة للحدود التي تتعامل مع الثروة والأثرياء فقط. إنّ ما نراه هو انتفاضة الطبقة الوسطى الذي يجهلها ماكرون عندما اختار مصالح الأثرياء.

الخطر على هذه التحولات أن يجري خطفها من القوى اليمينية المتطرفة بتواطؤ مع الرأسمال ودخول أوروبا من جديد في موجة فاشية منغلقة على ذاتها.

السؤال الآن كيف ستتأثّر السياسة الدولية بهذه المتغيرات وكيف ستنعكس علينا نحن الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية؟ هذا السؤال يتطلب إجابة استشرافية، أن أوروبا الجديدة قد تنكفئ على نفسها لمرحلة طويلة قادمة وتدخل في مرحلة مخاض جديدة لا يمكن التنبؤ بنتائجها من الآن.