أمام مشهدية الوضع القائم نتذكر الموقف القاطع الذي اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية بشخص رئيسها الشهيد ياسر عرفات حين أعلن اعتراضه على الدعوات التي طالبت ما يسمى المجتمع الدولي بالتدخل عسكريا لردع القيادة العراقية إبان غزو الكويت.
ونتذكر ما تلا ذلك من تطبيل وتهليل للشرق الأوسط الجديد، والذي اعقبه غزو العراق تحت ذريعة الكذبة الكبيرة التي أطلقتها الادارة الأميركية حول أسلحة الدمار الشامل العراقية.
منذ تلك الحقبة بدأت الهاوية تطوّق عنق الواقع العربي بكل أبعاده وتشعباته، وباتت أمة بكلّ ما تحمل وتحتوي مشاعا خالصا للمشاريع العدوانية- الاجرامية- التصفوية الأميركية- الاستعمارية، وملحقها الدائم إسرائيل.
أمّة مكسورة الظهر... مصابة بداء العجز والهزيمة، تعيش أكثر دولها على المظلة الأمنية والسياسية الأميركية وتحت رحمتها، لا يمكن أن تكون إلا كذلك، لأن شبح تغيير زعمائها والانقلاب عليهم يلاحقهم كل لحظة إن هم امتلكوا إرادة التمرد على سياسة الولايات المتحدة.
لم يعد يجدي الوقوف على الاطلال وبكاء المجد الضائع، فذات يوم سوف تخرج الأسرار من أدراج ملاّكها لتضع الحقائق أمام أعين الذين حاصروا وعادوا القيادة الفلسطينية على موقفها التاريخي الذي كان واضح الأبعاد والدلالات في حينه، أي أنه يتصل وبتواتر واتساق جليين بواقعنا الحالي.
تفكيك الكيانات العربية والتلاعب بمكوّناتها واستحداث كيانات متعادية ومتصارعة داخلها كان ولم يزل الهدف الأول لفنان الأزمات الأميركي- الصهيوني، من أجل تغيير الحال العربي إلى أرذل ما يتخيل عقل عاقل أو حكيم.
التسرّب السياسي لبعض دول الاقليم القوية- تركيا وايران- لم يكن يؤذي الأميركي ويحبطه، بل كان مطلبا أميركيا لإنتاج حلقة صراع جديدة تؤدي إلى اعتبار التدخل الصهيوني في أحداثها تحصيل حاصل وشرعي تماما، إذا ما لفت نظرنا تصريح رئيسة الوزاء البريطانية الذي أدانت فيه قصف إيران المواقع الاسرائيلية في الجولان المحتل.
والانكى من ذلك أيضا أننا حين نتذكر تصريحات دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية حول الثمن الذي على دول الخليج أن تدفعه للولايات المتحدة التي لولاها لكانت أزيلت من الوجود خلال أسابيع، علينا الآن أن نعرف بأن المسألة تعدّت مئات المليارات التي أخذت خوّة وعنوة من السعودية وغيرها، بل إن الفاتورة أكبر من ذلك بكثير، لأن مواقف بعض الدول الخليجية- الامارات والبحرين مثلا- باتت تجاهر بدعم الموقف الاسرائيلي ومنح اعتداءاته شرعية وصفها الاسرائيليون بالمدهشة. أليست تلك المواقف جزءا من الفاتورة المطلوب من هذه الدول دفعها؟ والصمت العربي تجاه قرار ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس وتبريره جزئيا، ألا يتصل بالبعد ذاته؟
والأغرب مما سبق هو ترويج البعض العربي لمقولة أن السبب هو الانقسام الفلسطيني، ووجود اتفاقات سلام بين بعض العرب وإسرائيل، لماذا حرام على البقية إقامة علاقات مع إسرائيل وحلال على الآخرين!.
إن تلك الأسئلة لا تتعدّى كونها ترويجا فاقدا لأية أبعاد أخلاقية ولا تنمّ عن أي بعد أخوي يربط بين شعب مظلوم، بكل معاني الظلم التاريخي، وآخر واجبه الدائم أن يكون إلى جانبه، لا أن يتحيّن الفرص للتخلص من واجباته تجاهه.
إيران وتدخلها في المنطقة جزء من الأزمة، أيا كانت مبررات الذين يهتفون باسمها، لكن أن تتحوّل في نظر البعض إلى شيطان مقابل ملاكٍ اسمه إسرائيل فذلك منتهى الاستلاب والسقوط السياسي والاخلاقي. كيف لدولةٍ محتلة شرعيّة الدفاع عن نفسها- وزير خارجية البحرين المتضامن مع إسرائيل بوجه إيران المعتدية!.
لقد استطاعت الولايات المتحدة ومعها معسكر الغرب التابع لها إحاطة فلسطين- شعبا وقضية- بالنكبات العميقة والتاريخية بهدف تحويل المنطقة إلى أثرٍ بعد عين لتمكين الكيان الصهيوني من تجاوز مسألة استعمار فلسطين وتهجير أهلها وارتكاب أفظع الجرائم بحق من بقي منهم، مسألة ثانوية أمام فائض النكبات الرابضة فوق صدور المواطنين العرب، وبالتالي تقرير مصيرهم حسبما ترتأيه مصلحتها دون سواها.
زعيما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يواجهان مشاكل قانونية قد تطيح بأحدهما او كليهما، صحيح ذلك، لكن ما اتخذاه من مواقف وقراراتٍ عدوانية سوف يبقى ويبنى عليه، خاصة تلك التي تتصل بالمسألة الفلسطينية.
في خضم الذكرى السبعين للنكبة، كيف نقرأ المشهد الصهيوني من داخله؟
الخلاصة الأولى نوجزها ببساطة شديدة: هناك انزياح شبه كامل للمجتمع الصهيوني ونخبه السياسية والثقافية نحو التطرف. حتى ان الاحزاب التي كانت تعتبر تاريخيا معتدلة- مع أن الاعتبار سطحي جدا، باتت لا تتميّز عن الليكود والاحزاب الدينية بشيء. واندمج غالبية قوى السياسة الفاعلة بالبعد الايديولوجي تماهيا مع أقطاب إدارة ترامب والانجليين الفاعلين في اللوبي الصهيوني، كما تماهوا سابقا مع غلاة الايديولوجيين في إدارة جورج بوش الابن. وهنا لا بد من الاشارة إلى نجاح الحكومة الاسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو في تضخيم الروح العنصرية لدى المجتمع الصهيوني، وبالتالي النفخ في بوق العظمة أمام تهاوي الحال العربي، مما أنتج جيلا جديدا من المتغطرسين الذين يضعون القيم الانسانية على قياس عنصريتهم، وبالتالي فإن العزّل الذين يسقطون من أبناء الشعب الفلسطيني هم ضحايا الذين يدفعونهم إلى الموت ولا يتحمّل الاسرائيليون أية مسؤولية تجاه مصيرهم.
وبالاشارة أيضا، لا يبدو غريبا أن تكون غالبية المستوطنين في الأراضي الفلسطينية يعودون في أصولهم إلى عصابات شتيرن والهجاناه وسواها الذين نكلوا بالشعب الفلسطيني وارتكبوا بحقه أبشع المجازر وأكثرها دموية. بالطبع لهؤلاء من يتناغم مع أفكارهم من ايديولوجيي الولايات المتحدة. هؤلاء يعتبرون في المجتمع الصهيوني العصب الذي بنى إسرائيل، ومن خلال جهودهم ودأبهم على الاحتلال والتمدد سوف يمهّدون لظهور المخلص الذي تخوض معه هذه الفئة منازلة "الهرماجدون" التي سوف ينتصرون فيها إلى الأبد. ما معنى أن يقيمَ سفير الولايات المتحدة في مستوطنة بالضفة الغربية؟
بنيامين نتنياهو زعيم الليكود العلماني ينتمي ببعده العميق إلى هذه الفئة، إذ ليس غريبا أن يعلن دائما إعجابه بهم كملهمين أصيلين للصهاينة الأقحاح على مدى تاريخهم.
خلاصة الأمر: هناك مصالح ودول تدوّر زوايا الواقع للاستفادة قدر الامكان من أجل مصالح شعوبها ورفاهيتهم، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا تمثلان العمود الفقري للدولة العميقة، وهما تنفردان برعاية إسرائيل ومشاريع عدوانها واغتصابها فلسطين وما ملكت يدها في المنطقة. وهنا لا تستحضرنا المصالح فقط، ودعم كيان غاصب، بل تمادٍ في تدمير وتفتيت الكيانات العربية من بوابة التاريخ الذي سجل لصلاح الدين تحرير القدس، وللدولة الأموية التي غزت أوروبا. وللجغرافيا الملعونة التي تقع وسط العالم وتطل على بحار ومحيطات بكل ما تحتوي من مضائق وممرات.
إن نظرة سطحية لما يمتلكه الكيان الصهيوني من إمكاناتٍ عسكرية وتكنولوجية وسلاح نووي مسكوت عن حجمه وقوته التدميرية تعجّل في طرح الأسئلة عن معنى وأسباب ومدى ضرورة ذلك... ليأتي الجواب القاهر: إسرائيل قلب المشروع الأميركي- البريطاني في المنطقة وقاعدته الثابتة، فكيف إن أضفنا سبب الأهداف الإسرائيلية المتلاقية حتما مع المشروع الأم.
كما بدأت، لا بدَّ من تحية إجلالٍ وإكبار إلى تلك القيادة المرابطة والمناضلة، ومعها شعب لا تلويه المصاعب ولا تسقطه الجراح. فإذا كانت إسرائيل تمثل قلب معادلة المشروع الأميركي- البريطاني للمنطقة، فإن لهذه القيادة مشروع واحد اسمه الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين إلى أرضهم وديارهم: طال الزمان أم قصر. وليعلم من التبست عليه الأمور دهرا أن المشروع الثلاثي الأضلع لا يستثني دولة أو كياناً عربياً.