أعيد نشر هذه المقالة لأهميتها لفهم السياسات الأمريكية الجارية في الوطن العربي رغم أنها كتبت ونشرت بتاريخ 06/03/2004م أي قبل عشر سنوات من الآن.

   لم تكن تعنى الولايات المتحدة بالشأن العربي كثيراً قبل الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي ، ولكن من الثابت أنها كانت تراقب ما يجري من تطورات في صراع الدول الاستعمارية الأوروبية على العالم العربي بشكل خاص ، وعلى تركة الدولة العثمانية بشكل عام ، بل أكثر من ذلك هناك وثائق تاريخية تثبت وتؤكد أن الولايات المتحدة كانت الضاغط الرئيس على الحكومة البريطانية في إصدار وعد بلفور المشؤوم عن وزير خارجيتها في العام 1917 م ، القاضي بمنح اليهود وطناً قومياً في أرض فلسطين ، وما الانحياز الأمريكي المطلق إلى جانب الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل في صراعهما مع الفلسطينيين خصوصاً ، ومع العرب عموماً ، منذ البدايات الأولى لهذا الصراع والى اليوم إلا تأكيد صريح على دور الولايات المتحدة في إصدار هذا الوعد المشؤوم وقد كانت الولايات المتحدة تتربص وتتحين الفرصة ، والوقت ، المناسبين للإنطلاق في سياساتها الخارجية نحو العالم القديم عموماً ومنطقتنا العربية خصوصاً ، ورغم أن الولايات المتحدة لم تكن طرفاً في اتفاقات السلام الدولية ، التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ، بل ورفضت أن تشارك في صياغة النظام الأساسي لعهد عصبة الأمم ، أو أن تتمتع بعضويتها قاصرة تدخلاتها الدولية المباشرة على مجالها الحيوي في حديقتها الخلفية دول أمريكا اللاتينية ودول الكاريبي في العالم الجديد ، ولكنها كانت تراقب عن كثب جملة التغيرات السياسية والأيدلوجية والاقتصادية والعسكرية التي كانت تشهدها دول قارات العالم القديم ، وقبيل الحرب العالمية الثانية كان الاقتصاد الأمريكي قد وصل إلى مرحلة التشغيل الكامل لكل عوامل الإنتاج ، وبدأت حاجته لموارد جديدة من المواد الخام من خارج الولايات المتحدة ومن خارج القارة اللاتينية من جهة ، وحاجته إلى أسواق جديدة لتصريف فائض إنتاجه فيها من جهة أخرى ، لذا وجدت الولايات المتحدة نفسـها تندفع وبقـوة في المشاركة في صناعة  الأحداث الدولية وأصبحت لاعباً رئيسياً في الحرب العالمية الثانية ، وفي صناعة النظام الدولي واتفاقات السلام ، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ، والتي أفرزت نظاماً دولياً يقوم على أساس من الثنائية القطبية ، وقد مثلت فيه القطب الرئيس المنافح عن الرأسمالية العالمية ومصالحها الكونية ، في مواجهة القطب الآخر (( الاتحاد السوفياتي )) ، ومحاصرة تطلعاته وامتداته الجغرافية والعسكرية والاقتصادية والأيدلوجية .
ومع بداية الحرب العالمية الثانية كانت قد بانت وظهرت الأهمية الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية للعالم العربي ، وخصوصاً منطقة الخليج العربي فيه عندما اكتشف فيها النفط وبدأت عمليات اكتشافه وانتاجه تبشر بمخزون وفير من هذه السلعة الاستراتيجية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي وحاجته المتزايدة لها مع تزايد استهلاك صناعاته لها ونمو اقتصادياته المضطرد ، ومن هنا فقد مثل العالم العربي مسرحاً مهما لتطبيق سياسات الاستقطاب الدولي وصراع المصالح الدولية والقطبية منذ بداية الحرب العالمية الثانية والى انهيار الاتحاد السوفياتي والذي مثلت نهايته ، نهاية لحقبة الحرب الباردة ، التي انتهت بنصر مؤزر للولايات المتحدة على المستوى الكوني كما بشر بها ( ريتشارد نيكسون ) الرئيس الأمريكي الأسبق في كتابه ( نصر بلا حرب ) الذي صدر له في أواسط الثمانينات من القـرن الماضي ، والذي وضع فيه خلاصة تجاربه السياسية وتنبؤاته المستقبلية لمستقبل أمريكا والعالم ، بل رسم فيه معالم الإستراتيجيا الأمريكية في القرن الحادي والعشرين كي تستمر الولايات المتحدة سيدة لعالم تسوده المبادئ الديمقراطية والليبراليه الأمريكية ، ويستمر تنامي وتصاعد القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية كي تحول دون ظهور أية قوة دولية أيديولوجية أو اقتصادية أو عسكرية منافسه لها أو تهدد أو تضع حداً لهذه السيطرة الأمريكية الكونية.ومن هنا جاء التبشير بالنظام الدولي الجديد وما عرف بالعولمة ( الأمركة ) حيث لم تعد مؤسسات ومفاعيل النظام الدولي السابق الذي نتج عن توازن قوى ما بعد الحرب العالمية الثانية قادرة على التجاوب مع هذه الطموحات والتطلـعات الأمريكيـة الجـديدة ، فأصبحت مصالح وسياسات وقرارات الولايات المتحدة هي التي تضفي المشروعية على أو تسقطـها عن أي فعل من الأفعـال الدوليـة اقتصادية كانت أو سياسية أو عسكرية أوغيرها .
فالولايات المتحدة اليوم ترسم وتضع السياسة الدولية منفردة وتقرر الشرعية الدولية ، متجاهلة أية معارضة دولية قد تظهر أمامها ، مستندة إلى مبدأ مشروعية قوة القوة فقط لا إلى مشروعية قوة الحق والقانون ، لأنه ليس بمقدور المعارضة الدولية التي قد تظهر بين الفينة والأخرى من بعض الدول التي تظن أن من حقها المشاركة في صنع السياسة الدولية ، القدرة على وقف أو تعطيل أو الحد من جموح السياسة الأمريكية ، المعتمدة على فلسفة القوة المحددة بكل تجلياتها ، وعلى أساس نظريتها في اتساع رقعة الأمن القومي الأمريكي ليشمل الكون بأجمعه ، فالسياسة الدولية الأمريكية اليوم ، تسعى إلى إعادة صياغة النظام العالمي ، ونظمه الإقليمية ، بما يضمن حماية المصالح القومية الأمريكية على مستوى الكون أجمع، والى الأبد ، وأن تضمن عدم ظهور أية قوة دولية في أي مكان تسعى لمشاركتها غنيمة النصر الذي أحرزته في نهاية الحرب الباردة ، على ضوء ذلك وضعت استراتيجيا الولايات المتحدة في التعامل مع المنطقة العربية وأنشأت تصورها لمستقبل العرب ودولهم وثرواتهم على هذا الأساس بدأت تتعامل مع حقائق السياسة والاقتصاد والجغرافيا مع العالم العربي ، الذي لا زال متوتراً وقلقاً منذ الحرب العالمية الثانية والى اليوم لما يعانيه من أزمات خانقة ومعقدة ، أو لها وأشدها تعقيداً أزمة الصراع العربي الإسرائيلي ومن ثم تتوالى أزماته في التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية والاجتماعية والثقافية وأزمة الهوية التي تمزق أوصاله وتثير الصراعات البينية بين عناصره ودوله .
هذه الأنواع المختلفة من الأزمات التي طبعت حياة جميع الدول العربية بتفاوتات مختلفة من دولة لأخرى، ورغم ذلك فالعالم العربي يحتضن أكثر من ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، الذي يمثل عصب الاقتصاد الدولي والذي لن يفقـد أهميته الاستراتيجية حتى آخر برميل نفط ، ومهما تطورت بدائل الطاقة ، بسبب تدني كلفة إنتاجه وتسويقه في مقابل الكلفة العالية لبدائل الطاقة الأخرى ومهما رشدت الدول من استهلاكها للطاقة فإن حاجتها للطاقة وللنفط في تزايد مضطرد ومستمر ، خصوصاً وأن الولايات المتحدة تسعى لإدامة سيطرتها الكونية إلى الأبد ومواصلة الارتقاء بمستوى الرفاه والتقدم للمجتمع الأمريكي إلى مستويات لا يصح للمجتمعات الأخرى بلوغها ، وذلك لن يكون إلا على حساب المصالح الأساسية والحيوية لغيرها من الشعوب والدول ، ومنها بالتأكيد الشعوب والدول العربية ، ولذا فهي بصدد إعادة صياغة وترتيب النظام العربي مستبدله إياه ( بالشرق الأوسط الكبير ) كما يحلو لها تسميته ، في مشروعها المقترح للإصلاح وإعادة البناء في العالم العربي والذي وسعته حتى يشتمل على إسرائيل ، وتركيا ، وإيران ، وباكستان ، بغرض ضمان مصالحها الحيوية في هذه المنطقة العربية الهامة والمتمثلة : أولاً : في النفط وضمان تدفقه إليها بسهولة ويسر وبأقل التكاليف ، ليواصل تشغيل عجلتها الصناعية والعسكرية وتحول دون ظهور أي تهديد لهذه السلعة الاستراتيجية من قريب أو بعيد ، وعدم تأثره بأي من الصراعات التي قد تشهدها المنطقة كما حصل إثر حرب أكتوبر 1973 م ، وبالتالي فهي تخطط من أجل أن يكون النفط تحت سيطرتها المباشرة وبالتالي إلغاء أي دور في تحديد سياسة أسعاره للدول المنتجه له كما تفعل الآن منظمة أوبيك .
ثانياً :  ضمان أمن ومستقبل إسرائيل واعتبارها ركنا أصيلاً في بناء النظام الشرق الأوسطي الكبير ، غير مهددة فيه بالزوال ،  وغير مطعون في شرعيتها وستلعب دور ذراع أمريكية متقدمة في قلب هذا النظام الشرق أوسطي الكبير ، تتماثل فيه مع الولايات المتحدة وتتطابق في الغاية والأهداف ، في إطار سياسة الاستخدام الأمريكي لها في تنفيذ بعض المهام التي قد توكل لها في ضبط النظام الشرق أوسطي لما تتمتع به من عناصر تتفوق بها على بقية العناصر المكونة للنظام الشرق أوسطي الكبير .
ثالثاً :  هذه المنطقة لها أهميتها الاستراتيجية العسكرية بالنسبة للولايات المتحدة في ضبط النظـام الدولي الجديد لتوسطها قارات العالم القديم آسيا ، إفريقيا ، أوروبا ، وسيطرتها على طرق المواصلات البحرية والجوية وما يكسبها من أهمية جيوسياسية وعسكرية في مواجهة القـوى المرشحة لمنافسة الولايات المتحدة سواء أوروبا الموحده أو الاتحاد الروسي ، أو الهند ، أو الصين كقوى قد تملك مقومات الدخول في المنافسة الدولية مستقبلاً .
رابعاً :   تمثل هذه المنطقة وحده جغرافية متماسكة ويربط بينها تقارب عقائدي وثقافي باستثناء إسرائيل التي يرفضها المحيط عقائدياً وثقافياً وحضارياً فجميع دول المنطقة باستثناء إسرائيل ، أعضاء في جامعة الدول العربية ، أو أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي ، وحيث أن الاتجاه السياسي المسيطر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً وعقائدياً في الولايات المتحدة يعتبر أن الإسلام والشعوب الإسلامية ، تمثل العدو ومصدر الإرهاب ، الذي أعلنت الولايات المتحدة حربها الطويلة الأمد عليه ، هذه الحرب التي مهد إليها  بتنظيرات أظهرت الأيديولوجيا الأمريكية التي ترى في الإسلام وفي المسلمين مصدر التهديد لها بعد زوال الخطر الشيوعي ، وبالتالي إعادة صياغتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً واجتماعياً وفق مصالح الولايات المتحدة بات ضرورة تمليه مصلحة الأمن القومي الأمريكي .
خامساً :   هذه المنطقة يقطنها ما يزيد على ستمائة مليون إنسان فهي سوق مهمة لتسويق فائض الإنتاج الأمريكي فيها ، تسعى كي يكون لمنتجاتها فيها النصيب والحظ الأوفر في إطار التنافس الدائر مع الاقتصاد الأوروبي والياباني والصيني . على السيطرة على الأسواق الخارجية .
على ضوء الحقائق السالفة يجب أن يتعامل العرب مع المقترح الأمريكي لإصلاح الوضع العربي ، ومع مشروعه للنظام الشرق أوسطي الكبير الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تشـييده ، فهل يقبل العرب بدمج إسرائيل بما هي عليه الآن في إطار النظام الإقليمي المنشود ؟ !  وهل يستطيع العرب التقدم بمشروع عربي للإصلاح نابع من حاجة الشعوب العربية للإصلاح قابل للتنفيذ ؟  وأن يكون قادراً على مواجهة المخطط الصهيو أمريكي في إعادة صياغة الذات العربية وفق مصالح إسرائيل وأمريكا ؟! وأن يسـعى لإعادة بناء النظام الإقليمي العربي على قاعدة تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المنـشودة للعالم العـربي ، وأن يسعى للخروج بالعـالم العربي من أزماته المتعددة والمزمنة ، وفي مقدمتها أزمة الصراع العربي الإسرائيلي ، وبالتالي يرهن تحقيق مصالح الولايات المتحدة لدى العرب في إنهاء هذا النزاع على قاعدة استعادة الحقوق العربية وفي مقدمتها حقوق شعب فلسطين في العودة وتقرير المصير ، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة ، وفرض التغيير الجذري في الطبيعة العنصرية والعدوانية للكيان الصهيوني ، وتجريده من أسلحة الدمار الشامل التي تمثل التهديد الدائم للنظام الإقليمي الشرق أوسطي برمته ، والسعي لاستبدال علاقة الهيمنة التي تسعى الولايات المتحدة لفرضها على النظام العربي من أجل ضمان مصالحها ، إلى علاقة شراكة متوازنة تقوم على أساس تبادل المصالح والمنافع .
إن العرب إذا أرادوا استثمار إمكانياتهم البشرية والمادية والثقافية وتوظيفها بشكل سليم قادرون على الخروج من هذا المأزق ومواجهة هذه السياسة والاستراتيجيا الأمريكية الفوقية، بمشروع عربي للإصلاح السياسي والاقتصادي يأخذ في الاعتبار أولاً تحقيق المصالح العربية ، ويؤسس لعلاقة شراكة متوازنة مع الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم ، عندهـا تضطر الولايات المتحدة إلى تغيير استراتيجيتها في التعامل مع الوضع العربي برمته . إن هذا الأمر يتوقف بالدرجـة الأولى على مدى قابلية النخب السـياسية والاقتصـادية والاجتـماعية العربيـة المتحكمـة في الوضع العـربي في أن تقـترب من التعبير عن إرادة الشعوب العربية والتعبير عن مصالحها والتجاوب مع متطلباتها في الحرية والمشاركة السياسـية والدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعيـة والثـقافية ، والإصلاح السـياسي والإداري للمؤسسات العربية كي تكون في مستوى هذه التحديات الكونية ، وإلا سيبقى الوضع العربي مفعولاً به أمريكياً وإسرائيليـاً ، يتشكل وفق المصالح الصهيو أمريكية إلى أن تنقضي المصالح الحيوية والاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية لدى العرب ، فهـل ستكون القـمة العربيـة القـادمة والتي ستعـقد أواخـر الشـهر الحـالي في تونـس قـادرة على الاستجابة لتحديات الوضع العربي ؟ ووضع وإرسـاء قواعد الإصلاح العـربي على قاعـدة تحـقيـق المصـالح العـربية الوطـنية منـها والقوميـة وإسـقاط المـشاريع الصهـيو أمريكـيـة الهـادفة إعـادة صيـاغـتنا وفـق مصالحـها ؟!! .