بقلم/ بكر ابو بكر

من الصعب أن تنظر لمجمل التحركات السياسية و(الدبلوماسية) الى غزة من زاوية الدعم الإنساني فقط، بل يكاد يكون من السذاجة السياسية أن نقيّم كثير من الأمور في إطار العشوائية وعدم التنظيم ، أو في إطار النوايا الحسنة بلا أي ملامح ذات طابع سلبي أو كارثي.

لقد مرّ على الانقلاب في غزة حتى الآن السنوات الست ، و (الحسم العسكري بمصطلح حماس) يكرّس وجوده عبر تفرد منظمة حماس بالحكم السياسي المترابط مع تمشيط القطاع من أي مقاومة إضافة لسحقها كل مخالف لها عبر الاعتقال أو السجن أو التهديد أو بسن قوانين منفردة ، أو أي أسلوب لا يضر بمكانة وسلطة حماس المطلقة و(المتمكنة) لوحدها.

وفي سياق تكريس (غزة أولا وربما أخيرا)، غزة بوابة المقاومة والنصر والدولة يسير المسلسل الذي لا نتمناه، ولكن مؤشراته خطرة وكارثية.

كانت غزة تعاني الحصار فأصبحت (حرة)، وكانت محتلة فأصبحت (مفتوحة) ويدخلها (الفاتحون) ، كانت غزة مجال دعم إنساني بحت من خلال السفن المخترقة للحصار فأصبحت "دولة" تفتح أذرعها لرؤساء الدول والوزراء والسياسيين، وتتعامل معهم (باستقلالية) مطلقة من الترتيب للزائرين الى طريقة الاستقبال حتى التكرم بإطلاق الألقاب عليهم ومنحهم الهوية الفلسطينية وجوازات السفر.

لقد تخطى نظام الاخوان المسلمين المتشددين في غزة (تيار السلطة فيهم) عتبة المصالحة منذ زمن طويل، فهو إذ يؤمن أنه صاحب برنامج المقاومة دون غيره (رغم الهدنة المتينة مع الإسرائيليين ، والهدنة طويلة الأمد التي يطالب بها حلاَ للقضية ) لذا فان الآخر المناقض لهم -كما يرون- صاحب مشروع التسوية والمفاوضات والهزيمة مهما فعل، وهذا من صيغ الخطاب الحمساوي الإخواني الحالي في نسخته السلطوية الغزية.

إن هذا الخطاب أو التيار إذ يعتقد أنه (حرّر) غزة ، وأنه يستقبل فيها (الفاتحين) وأنه (انتصر) بفضل الله الذي شرفهم لوحدهم دون العالمين بذلك؟! فكيف له أن يتعامل مع المنهزمين المساومين الذين يقبعون تحت نير الاحتلال، ويستمرون بالتنسيق الامني معه ؟ ويبيعون الوطن ويتفاوضون ؟ إن هذا لا يجوز، فالمقاومة والنصر والفتح والتحرير والتمكين الإلهي قيَم لا يمكن أن تتقابل مع نقيضها، فكيف أصلا تتصالح معه؟.

كلنا يلاحظ أن غزة بعد الانقلاب ثم بعد الربيع العربي منذ 2001 قد أصبحت (دار سلام) بل قبل ذلك رغم اعتداءات الصهاينة اليومية عليها، وتركت (دار الحرب) في الضفة تقارع وتصارع وحدها ، فالنصر والفتح والتحرير يحقق السلام، وما يعنى حكما أن الحصار وسفنه قد أصبحت في خبر كان ، وإنها كما يقول د.عاطف ابو سيف في مقال هام له قد استنفدت أغراضها.

إن تيار السلطة في "حماس" الذي يحكم غزة قد أصبح واضح الولاء والانتماء ، وأصبح واضح التوجه الانفصالي ، و الاستحواذي والاقصائي ، وأصبحت مطالبه لا جدال فيها لديه، وهي في أولها اليوم السطو على كامل السلطة في الضفة وغزة (وفي منظمة التحرير الفلسطينية قبلها إن استطاعت) ما بعد أبومازن حيث يتجهز عزيز الدويك بانتظار القدر ، وإن لم يستطيعوا ذلك فلتكن غزة المفتوحة المحررة المنتصرة المهادنة (لإسرائيل) هي الدولة الحقيقية لا تلك المحتلة.

إن انفكاك محور ما كان يسمى الممانعة مع سوريا وحلفائها والارتباط بدولة لها في المنطقة دور أشبه بمخلب القط أصبح خطرا قوميا ليس على فلسطين، وإنما على مجموع العرب وأمنهم القومي، وتيار غزة -السلطة هذا قد ارتبط كليا بنظام هذا البلد وما يصدر عنه رغم ولائه المطلق للمصالح الامريكية والإسرائيلية ما لا يحتاج لدليل أو حدّة بصر أو بصيرة.

إن الانتقال "الاخواني" بغزة من كيان تحت الحصار الى بلد (محرر ومنتصر وبه فتوحات) ثم إلى دولة ذات تمثيل دبلوماسي قادم هو أحد أشكال الهدم للثوابت الفلسطينية وعلى رأسها وحدة التمثيل ما قد يجعل الجامعة العربية في مرحلة ما يتدخل فيها القدر لتقر هنية أو دويك أو غيرهما ممثلا لفلسطين في الجامعة العربية ، والسوابق شاهد واضح.

إن السعي الحثيث لدى حماس للسطو على (م.ت.ف) ورفض الانتخابات التشريعية هو المدخل اللازم لطرد "الفلول" ، ولمقعد فلسطين في الجامعة العربية، لاسيما وأن تيار حماس- غزة قدم التنازل المجاني الأكبر للأمريكان والإسرائيليين بالهدنة طويلة الأمد (تقول الأخبار أن أبومرزوق وعزام الأحمد اتفقا في القاهرة على الانتخابات التشريعية خلال 3 شهور، و3 قبلها لتشكيل الحكومة أي ستة أشهر... يحصل فيهما ما لا تعلمون).

إن مسار القضية عبر هذه المؤشرات الخطيرة التي يدعمها مصالح دول الاقليم المتصارعة على العرب، والتي تحمل فلسطين على كتفيها لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية يجعلنا في كرب لا يحسه منظرو بعض حماس الذين لا يرون بأسا أبدا أن تكون "ولاية غزة" جزءاً من "دولة أو خلافة أو سلطنة" أكبر ، أو أن تكون "دولة" (إن استطاعت ضم الحكم الذاتي في الضفة لها فليكن ) في إطار دول الاخوان المسلمين المتعثرة.

إن عقلية السيطرة والاستحواذ من جهة، والاتهام والإقصاء من جهة أخرى، مع التشكيك والانفصال النفسي-الفكري-المادي من جانب ثالث أصبحت متأصلة بشكل مفزع في الفكر "الاخواني" المتشدد في الاقليم، وانطلاقا من غزة النموذج الفاشل للدولة، ولكنه المصدّر لهذه الأفكار، ما يجعلنا في حالة من الفزع الاسلامي والقومي والوطني معا، ويجعل من الاسرائيليين المستفيد الأول مما هو حاصل في حالة من الفرح الى حد الانتشاء.

إن محادثات القاهرة الجديدة (وما قد يتلوها) هي الفرصة الأخيرة فان لم يصاحبها إرادة حقيقية-دون مواربة ومماحكات وعقبات واتهامات جاهزة توضع في الطريق- في إعلان لحكومة وحدة وتحديد موعد الانتخابات (والأخبار المبشرة ساعة إعداد هذا المقال، تقول أن ذلك تم ما نتمنى استمراره رغما عن أنف المعطلين باذن الله) فإننا بوارد إنفصال أو استبدال أو إقصاء واضح.

إن الحريصين في الحركة الوطنية عامة، ومنهم في "حماس" عليهم أمام الله والوطن أن يقدموا مصالح فلسطين والأمة على مصالح الحزب أو القلّة، ففلسطين أكبر منا جميعا ، وإلا فان على رئيس دولة فلسطين ألا يخاطر بحدوث الانفصال المتوقع أو الاستيلاء لتيار الاحتواء والالحاق في المنطقة علينا، ويعلن موعدا للانتخابات التشريعية والرئاسية على اعتبار غزة والضفة والقدس دائرة واحدة.

إن قضيتنا الفلسطينية وتدميرها أصبح هدفا مدونا في مخطط الكثيرين من الجُدُد وفي صفحات مذكراتهم الخبيثة ،كما أصبحت حركة فتح مستهدفة بقوة لأنها حاضنة الفكر المعتدل والوسطي والمتزن في حضارتنا العربية والاسلامية المتسامحة، ولأنها حاضنة الوحدة الوطنية والتعددية والديمقراطية والتشاركية وذات الحرص الأكيد على الثوابت، فان لم نعمل ليومنا فكيف يكون الغد؟