بقـلم/ صقر أبو فخر

جميع ثورات التحرر الوطني تمكنت من طرد المستعمر ونالت استقلالها. هذا ما حصل في الجزائر وفيتنام ودول أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. والثورات المعادية للعنصرية استطاعت أيضاً أن تلغي نظام الفصل العنصري وأن تؤسس دولة غير عنصرية مثل جنوب افريقيا وروديسيا التي صارت اسمها زيمبابوي.

أما في فلسطين فقد أخلف التاريخ وعده حتى الآن بعد 65 سنة على النكبة وقد كان السؤال بعد سنة 1948: لماذا هزمنا؟ وصار السؤال بعد انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني في سنة 1965: كيف ننتصر؟ والأجوبة كانت كثيرة: فتح كانت تقول ان الشعب الفلسطيني لا يستطيع أن ينتصر وحده... إنه رأس الحربة فحسب، أما مهمة التحرير فهي مهمة العرب جميعهم. وهكذا كان القوميون العرب يجادلون: الوحدة طريق التحرير، وكانت فتح ترد: التحرير طريق الوحدة. وفي خضم هذه المجادلات الفكرية والسياسية، وفي سياق اختبار هذه الافكار عملياً، لم يتمكن الفلسطينيون من تحرير بلدهم من الاحتلال الصهيوني، ولم يتمكنوا من تأسيس دولة ذات سيادة كاملة. لماذا؟ هل هناك علة في الشعب الفلسطيني نفسه، أم أن ثمة اعتلالاً مزمناً في الأمة العربية، أم أن هناك أسباباً غير هذا وذاك؟

القضية الفلسطينية، في الأساس، هي حركة تحرر وطني، وهي نتاج مباشر للصراع بين السكان الأصليين العرب في فلسطين وحركة استعمارية استيطانية تعرّف نفسها حركة قومية، وتمارس الاستيطان كعملية من عمليات بناء الأمة الاسرائيلية وتأسيس الدولة اليهودية. وقضية فلسطين ليست مثل بقية حركات التحرر الوطني العالمية، بل إنها واقعة جغرافياً بين المسألة اليهودية والنفط. وفي هذا المسرح المشتعل توجد مصالح عالمية هائلة ومتشابكة وخطيرة جداً، وعليها تدور معارك شرسة.

ثمة إذاً في بلادنا هذه، كنز وحارس؛ الكنز هو النفط، والحارس هو اسرائيل. الآن، بعد 65 سنة على النكبة، ما هي رؤية الفلسطينيين لقضيتهم؟ وكيف ترى اسرائيل نفسها بعد هذا الزمان الممتد؟ الخطاب العام الاسرائيلي هو خطاب الافتخار والجبروت والاعتزاز بما حققه اليهود من انجازات رسخت وجود اسرائيل. لكن هذا الخطاب يخفي خطاباً آخر يتسربل بالخوف من الزوال في يوم من الايام. لكن، من الواضح، أن الخطاب الاسرائيلي التقليدي مازال هو هو، أي خطاب الضحية والبطل: الضحية هي الشعب اليهودي في مواجهة النازية ثم في مواجهة العرب، والبطل هو الشعب اليهودي ايضاً الذي تمكن من البقاء طوال هذه الفترة كلها. أما رؤية بعض الفلسطينيين، وأشدد على كلمة بعض، فإنها، ولاسيما في خضم هذه التحولات العربية الماثلة أمام أعيننا، باتت ترى أن اتفاق أوسلو هو نهاية المطاف في النضال الفلسطيني، وأن من غير الممكن الحصول على أفضل من ذلك، وأن النضال الفلسطيني يجب أن يتركز على السعي لانتزاع ما منحنا اياه هذا الاتفاق.

لعل ما يثير الدهشة أحياناً أن التفاعلات العربية لم تصل الى فلسطين الا بصورة مجادلات سياسية وفكرية تعكس أهواء الناس اكثر مما تعكس تفكيراً جدياً في الاحتمالات الممكنة التي يمكن أن تفتحها التطورات العربية. ولم تتضح، حتى اليوم، الفضاءات الاستراتيجية الممكنة أمام الشعب الفلسطيني، لأن الواقع الراهن سديمي ومتسربل بالغموض وعدم اليقين. والخيارات العملية المتاحة أمام القوى السياسية في فلسطين محدودة. ومن الصعب جداً على الفلسطينيين اليوم اختيار ما هو معروض عليهم، ولا سيما أن الاوضاع العربية لم تستقر على قوام محدد بعدُ، وخصوصاً أن المعروض على الفلسطينيين ليس الاختيار بين حل الدولتين او حل الدولة الواحدة مثلاً، بل فرض "الدولة الموقتة" كعقد إذعان. والدولة الموقتة هي حل انتقالي طويل الامد لا يتضمن الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، بل يتضمن انسحاب اسرائيل من بعض مناطق الضفة الغربية، وتمكين السلطة الفلسطينية من ممارسة صلاحياتها في جميع المناطق التي تنسحب اسرائيل منها، على ان تسري هدنة طويلة بين الطرفين، ويتم تأجيل قضايا الحل النهائي وترحيلها الى المستقبل. إن "الدولة الموقتة" هي حل اسرائيلي تماماً، وهي نابعة من تفكير المؤسسة العسكرية الاسرائيلية نفسها. وقد شرح ايهود باراك، وزير الدفاع الاسرئيلي السابق، هذه المسألة امام مؤتمر "ايباك" في واسنطن بالقول: " ان التوصل الى سلام شامل مع الفلسطينيين أمر مستحيل. لذلك نقترح اتفاقاً موقتاً. واذا لم ينجح هذا الاقتراح، فعلى اسرائيل اتخاذ خطوات من جانب واحد لمنع قيام دولة ثنائية القومية"، أي أن عليها رسم الحدود بطريقة تحقق لها ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية ( راجع: جريدة "الشرق الأوسط"، 5/3/2013).

باختصار شديد، يمكن ايجاز الخيارات المتاحة، ولو نظرياً، أمام الشعب الفلسطيني على النحو التالي:

1. حل الدولتين.

2. حل الدولة الواحدة.

3. الدولة الموقتة.

4. الخيار الاردني (الوطن البديل) والخيار المصري (عودة مصر الى قطاع غزة).

5. بقاء الوضع على ما هو عليه.

إن حل الدولة الواحدة مستحيل. والدولة الموقتة من المحال قبول الفلسطينيين بها، والخيار الاردني (والمصري استطراداً) بما في ذلك الكونفدرالية مرفوض فلسطينياً وأردنياً. أما حل الدولتين فقد قضت اسرائيل على مضمونه بالاستيطان الذي ازداد خلال سنة 2012 وحدها 250 في المئة.

الصورة الراهنة في فلسطين تشير الى ان الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي مفتوح، والفلسطينيون ليسوا في طريقهم الى حلول سياسية البتة، وليسوا قادرين اليوم على تحويل الاحتلال الاسرائلي للأرض الفلسطينية الى مشروع خاسر؛ والخسارة لا تتحقق فعلياً الا باستخدام القوة. والقوة غير العنف، وهي تعني استخدام جميع الاوراق المتاحة: السياسية والدبلوماسية والقانونية والتظاهر والمقاطعة والعصيان المدني وتنظيم المناصرة الدولية واستخدام العنف المباشر حين يكون ذلك مجدياً. وفي هذا السياق لا بد من إعادة الاعتبار لبعض الافكار البسيطة التي أهيل عليها ركام من الغبار الذي زحم الفضاء السياسي الفلسطيني وجعلها مهملة في زوايا النسيان. ومن هذه الافكار البسيطة والبدهية أن فلسطين قضية تحرر وطني في الاساس وليست خلافاً على الارض من هنا او هناك، وهذه القضية لم تحل حتى الآن.

لذلك لا بد من تطوير برنامج سياسي للتحرر الوطني لا للتفاوض المباشر. ولا بد  من ميثاق وطني جديد لمنظمة تحرير فلسطينية جديدة.