سيستمر بنيامين نتنياهو، على الأرجح، رئيسًا للحكومة الاسرائيلية في ولاية رابعة، وهذا الأمر قلما انعقد لرئيس حكومة اسرائيلي من قبل. وسيكون علينا أن نتحمل صورته على شاشات التلفزة في المرحلة المقبلة. ووصف كثيرون نتائج الانتخابات الاسرائيلية التي جرت في 17/3/2015 بأنها انتصار كاسح لنتنياهو، ولا شك أن هناك انتصارًا ما حققه هذا المتعجرف الاسرائيلي، لكن هل هو "انتصار كاسح" حقًا؟ إن فحصًا ثاقبًا ودقيقًا لنتائج هذه الانتخابات يتيح لنا أن نرصد انعكاسها على القضية الفلسطينية وعلى فلسطينيي 1948 بطريقة دقيقة، خلافًا للغة المهرجانات الانتصارية والتهليل والاحتفال.
نتنياهو هزم استطلاعات الرأي التي أجمعت تقريبًا، عشية الانتخابات، على أنه سيُهزم. وجاءت النتائج لتخيب جميع التوقعات والتكهنات، ولتهين مؤسسات قياس الرأي العام في اسرائيل. لكن، مهما يكن الأمر في ذلك، فإن المنتصر الأول والأخير في تلك الانتخابات ليس نتنياهو حصرًا، بل العنصرية الصهيونية واليمين المتطرف بوجهيه الديني والقومي. وبالمقارنة مع نتائج انتخابات الكنيست في سنة 2013 نلاحظ أن اليمين الصهيوني تراجع من 61 مقعدًا في انتخابات 2013 إلى 57 مقعدًا في انتخابات 2015. فحزب البيت اليهودي برئاسة نفتالي بينيت نال 12 مقعدًا في سنة 2013 وها هو اليوم ينال 8 مقاعد فقط. وحركة شاس التي كان لها 11 مقعدًا صار الها 7 مقاعد. وحركة يهوديت هتواره، أي يهود التوراة، كانت حصتها 7 مقاعد فأصبحت 6 مقاعد. أما على جبهة اليسار الصهيوني فقد نال هذا اليسار 52 مقعدًا بينما كانت مقاعده في سنة 2013 فقط 48 مقعدًا (حزب العمل وهتنوعاه أي "الحركة" برئاسة تسيبي ليفني، وميرتس وكديما وييش عتيد أي هناك مستقبل برئاسة يئير لابيد وكولانا أي "كلنا")، وتقدمت مقاعد العرب الفلسطينيين من 11 مقعدًا إلى 13، وانقرض حزب "ياحد" نهائيًا، وهو الحزب الذي أسسه إيلي يشاي الزعيم السابق لحركة شاس اليمينية المتطرفة.

لعبة الخوف والتخويف
نجح نتنياهو في لعبة الخوف، وتمكن من استدراج الصوت اليهودي لمصلحته بعدما أتقن تخويف اليهود من أربعة أمور هي: المشروع النووي الايراني، فظهر كأنه يواجه الولايات المتحدة الأميركية في شأن المخاطر المرتقبة على اسرائيل؛ السلاح المتراكم لدى حزب الله في جنوب لبنان؛ الصورايخ التي تختزنها حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في قطاع غزة؛ وتفاهم اليسار الصهيوني مع فلسطينيي 1948 الأمر الذي سيفاقم، من وجهة نظر اليمين، الخطرالديمغرافي الذي يمثله وجود نحو مليون وثلاثمئة ألف عربي عدا سكان الجولان والقدس. وبهذه النتائج ستكون الحكومة الاسرائيلية المقبلة، في ما لو تمكن نتنياهو من تأليفها، حكومة يمينية خالصة، أي تحالف الليكود والأحزاب الدينية (الحريديم) مثل البيت اليهودي ويهوديت هتواره وشاس والأحزاب القومية المتطرفة مثل اسرائيل بتينو برئاسة أفيغدور ليبرمان. لكن، ليس من مصلحة اللكيود وبنيامين نتنياهو بالتحديد، إذا أراد أن يرمم علاقته بالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الاوروبي، أن يؤلف حكومة يمين متطرف، بل حكومة يمين الوسط. وهذا الأمر يتطلب التحالف مع حزب "كولانا" (أي "كلنا") الذي يحظى بعشرة مقاعد. وواضح أن أحد معوقات مثل هذا الحكومة المفترضة (67 مقعدًا) هو رفض يئير لابيد زعيم حزب "هناك مستقبل" المشاركة في حكومة واحدة مع "يهدوت هتواره" الذي يعارض بدروه التحالف مع أفيغدور ليبرمان الذي يطالب بالزواج المدني. فهذا الحزب القومي، أي اسرائيل بتينو (اسرائيل بيتنا)، ظهر في سنة 1999 في إطار ثقافة قومية روسية شبه علمانية مع تطرف قومي اسرائيلي.
إذا لم ينضم "كولانا" الى تحالف اليمين، فلن يتمكن نتنياهو من تأليف حكومة بـِ 57 مقعدًا فقط. وهنا ربما يعمد رئيس الدولة رؤوفين ريفلين إلى تكليف يتسحاق هيرتسوغ تأليف الحكومة التي تصبح ممكنة في حال قبل "كولانا" الانضمام إليها، وستنال 63 مقعدًا. وفي أي حال، برهن المجتمع الاسرائيلي ما هو معروف سلفًا، وهو أن إسرائيل في معظمها لا ترغب في قيام دولة فلسطينية والانسحاب من القدس الشرقية وتفكيك المستوطنات. أي أنها، ببساطة، لا تريد أي تسوية؛ فقد كان نتنياهو يتحدث عن حل الدولتين ويقوم، في الوقت نفسه، بتوسيع مطرد للاستيطان، ويصادر، بطريقة محمومة، أراضي الفلسطينيين هنا وهناك بذرائع الأمن تارة والاستيطان تارة أخرى.

احتمالات على المدى المتوسط
في 25/2/2015، وفي حمى المنازلات الاسرائيلية على كسب أصوات اليهود، أقدم مستوطنون اسرائيليون من مجموعة "تدفيع الثمن" على إحراق مسجد الهدى في قرية الجبعة التابعة لمحافظة بيت لحم. وفي 26/2/2015، أي في اليوم التالي مباشرة، قامت عناصر من المجموعة نفسها بإحراق كنيسة جبل صهيوني في القدس ما ألحق أضرارًا بالغة بالكنيسة. ومن الواضح أن "دواعش" اليهود ما برحوا، منذ فترة طويلة، يحاولون غزو الحرم القدسي حيث يقوم المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. ومن المتوقع أن تلتهب حمى التطرف في المرحلة المقبلة الأمر الذي ربما يؤدي الى قيام حكومة نتنياهو بتقسيم المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين على غرار ما وقع للمسجد الابراهيمي في الخليل. وهذا أمر ليس بعيد الاحتمال ولا سيما أن أوساط اليمين الصهيوني، وبالتحديد حزب الليكود، تحرض في اتجاه تقسيم الحرم حين تكون الاوضاع السياسية مواتية. أما في المدى القريب فمن المتوقع أن تتزايد حمى الاستيطان، وأن تستمر العقوبات الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني مثل احتجاز الأموال العائدة الى السلطة الفلسطينية، ومنع السلع المنتجة في الضفة الغربية من التصريف في السوق الاسرائيلية، وعرقلة وصولها الى الاردن في الوقت نفسه.
ما الرد الفلسطيني إذاً على هذه التطورات الخطيرة؟ إن الحكمة السياسية تقتضي التريث قليلاً في اتخاذ المواقف النهائية حتى يتبين مسار المواجهة بين نتنياهو والولايات المتحدة وأوروبا، وحتى نتأكد من صورة الحكومة الاسرائيلية المقبلة وبرنامجها السياسي، ولا سيما أن لا ظهير عربيًا لفلسطين في هذه المرحلة التي انفتحت فيها جميع الجروح وآخرها اليمن. غير أن ذلك كله لا يعيق أبدًا إعداد الملفات للذهاب الى الامم المتحدة حتى تحت المخاطرة بتلقي الفيتو الأميركي. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قدمت الى مجلس الامن في 17/12/2012 مشروع قرار يطالب بإنهاء الاحتلال الاسرائيلي لأراضي الدولة الفلسطينية في مهلة لا تتعدى العامين. وها هما العامان انصرما، ومن الملائم إعادة تقديم هذا الطلب مجدداً، والتفتيش عن أوراق قوة إضافية لاستخدامها جنبًا إلى جنب مع الأوراق الأخرى كتنظيم مقاومة شعبية متصاعدة ودائمة وتطوير عمل المقاطعة الدولية... وغير ذلك، والسعي، في الوقت نفسه، لاستعادة وحدانية السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة والسير نحو إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطينية ببرنامج سياسي شامل وبرؤية موحدة إلى المفاوضات والمقاومة.

فلسطينيو 1948
أوضحت نتائج الإنتخابات الاسرائيلية أن القائمة العربية الموحدة حققت تقدمًا لا بأس به، فأحرزت 13 مقعدًا بزيادة مقعدين على عدد المقاعد في انتخابات سنة 2013. وهذا درس جيد للجميع، إذ إن الوحدة الوطنية في الشؤون العامة تعني مزيدًا من الانجازات السياسية. ولو كانت نسبة التصويت أعلى (75%) لأحرزوا مقاعد أكثر. وبالحساب البسيط، فإن فلسطينيي 1948 يؤلفون اليوم نحو 20% من عدد سكان إسرائيل. أي أنهم، في الحالة المثالية القصوى، يستطيعون نيل 24 مقعدًا. وهذا الأمر لو تحقق يومًا، فسوف يقلب المعادلة السياسية في إسرائيل رأسًا على عقب. لكن، في الحال الواقعية، يستطيع العرب نيل 18 مقعدًا، وهذا هدف ممكن، ويجب السعي لتحقيقه. وكانت القائمة العربية الموحدة تألفت من "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (أيمن عودة) و "الحركة الاسلامية (ابراهيم صرصور) و"التجمع الوطني الديمقراطي" (جمال زحالقة) و "الحركة العربية للتغيير" (أحمد الطيبي). والمؤكد أن التقدم الذي أحرزه العرب سيثير نقمة اليمين الإسرائيلي المتطرف، علمًا أن نصف يهود اسرائيل، بحسب استطلاعات متينة، يطالبون بترحيل العرب. ومع الأسف فإن بعض العرب صوّت لأحزاب يمينية ويسارية اسرائيلية التي رشحت عربًا على قوائمها في أمكنة شبه مضمونة،مثل زهير بهلول على قائمة العمل، وعيساوي فريج على قائمة ميريتس، وحمد عامر على قائمة إسرائيل بتينو وأيوب قرة على قائمة الليكود وأكرم حسون على قائمة كولانا... وهكذا.
إن المعركة التي يخوضها الفلسطينيون في أراضي 1948 ليست مجرد معركة انتخابات تقليدية، وأهدافهم ليست مطلبية على الإطلاق. نعم، للفلسطينيين العرب مطالب كثيرة، لكن نضالهم ليس مطلبيًا في الجوهر، بل سياسيًا في إطار أوسع هو وجودهم القومي والفلسطينيون في إسرائيل ليسوا مجموعة مهاجرة تطالب بالمساواة والاندماج، بل هم سكان البلاد الأصليين الذي خضعوا، بقوة الاحتلال الكولونيالي الإحلالي، إلى معادلة التناقض في قلب الهوية؛ أي أنهم صاروا منذ سنة 1948 مواطنين في دولة تعلن عن نفسها أنها ليست دولتهم لأنها، باختصار، دولة اليهود. والمواطنة الجديدة التي خضع العرب لها، أي المواطنة الإسرائيلية، متناقضة تمامًا مع الهوية العربية التي يحملها هؤلاء الفلسطينيون في الداخل، فهم مجموعة غير مرحب بها في اسرائيل، وهم في الوقت نفسه صاروا مواطنين في دولة ليست دولتهم.
إن ازدياد وزن اليمين القومي العنصري واليمين الديني في إسرائيل من شأنه أن يعرض فلسطيني 1948 لمخاطر متزايدة كالتي يهدد بها أفيغدور ليبرمان؛ فهو يدعو إلى الحل القبرصي للمسألة الفلسطينية، أي فصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين جغراقيًا، وطرد معظم الفلسطينيين الموجودين في "أراضي دولة إسرائيل" إلى خارج الحدود، وهو يحرِّض على ترحيل 300 ألف عربي من منطقة المثلث إلى البلاد العربية على أن يُرغم مَن يبقى على الولاء للعلم الاسرائيلي والنشيد الإسرائيلي والخدمة في الجيش، وإلا يتحول إلى مقيم دائم، ما يعني أنه غير مواطن.
إن جواب الفلسطينيين في الداخل هو أن ولاء الفلسطينيين هو لشعبهم وحقوقهم القومية، وليس للدولة التي أُرغموا على حمل جنسيتها وأصبحوا مواطنين فيها. وعلى هذه المعادلة يدور الصراع الوجودي اليوم.