الشجرة التي شقت طريقها بين الجدران والسقوف، كانت موجودة قبل بناء هذه البيوت. إلا أنه لم تكن موجودة قبل تأسيس المخيم. لم تكن لتكبر لولا أن رجلاً قرر أن يغرسها. هل كان يظن في حينها أن الشجرة ستحشر حشراً بين هذه البيوت التي نمت، شاهدة صامتة على مخيم؟ تيبس وتخضر وتيبس وتخضر لأكثر من  ستين عاماً، فإذا ماتت اليد التي زرعت، ودفنت في لجوئها، ظلت الشجرة، في عين الحلوة، ليست حبيسة للرمز، بل واحدة من طرق تعبيره عن نفسه. شجرة في مخيم، رمز آخر، كالمفتاح.. كالبرتقالة.. كاللهجة... كسطر القصيدة... ككل ما نعرف.

للاجئ علاقة بالرموز أعمق ممن لا يعيش غربة كالتي يحياها الفلسطيني. فهو في عيش مؤقت لكن، بلا نهاية. وهو مولود ابن بلد لم يره، ومولود في بلد لا ينظر إليه، إلا حين يريد نبش مخاوف طوائفه بعضها من بعض، ومن "الغريب".

هو التيه، هذا الذي يجعل لشجرة تعيق حياة الزقاق كل هذه القيمة. الشجرة التي كسرتها العاصفة، رُبطت كما تربط بالعنق ذراع مكسورة. يجب على العِرقُ فيها أن يظل أخضر. "يجب"، في تحدٍ مستدام للطبيعة، مذ اقتلعت رياحها الخيام أو غرقت الأرض بالماء. مذ جاؤوا وهم يتحدّون الطبيعة. أقول "هم"، وأنا واثق أنني لا أستطيع أن أكون فلسطينياً، بل ولا يمكنني أن أدعي معرفتهم. كل ما يمكن أن ادعيه هو أنني مذ دخلت مخيماً للمرة الأولى، دخلت متخففاً من تنميط المخيم: فلا هو المكان المخيف المرعب ولا هو قلعة مؤقتة لمقاتلين يتحضرون للعودة، ولا هو المكان الذي يستثير شكل الحياة فيه الشفقة التي تخبئ خلفها الارتياح، لأن ما نراه لسنا مضطرين إلى تجربته. لم ادخل إلى المخيم لأكون فلسطينياً، أو لأقول: الحمد لله أنني لست فلسطينياً. ولم أدخل بدافع فضول مجرد. دخلت بصفتي صحافياً.

منذ عشر سنوات وأنا أزور المخيمات بهذه الصفة الآن لا أذكر الزيارة الأولى ولا الانطباع الأول. ارتاح إلى مثل هذا النسيان الذي يعفيني من المبالغة في الذهول. لم يذهلني مخيم شاتيلا مثلاً. ما أذهلني هو تلك الجولات التي يؤخذ إليها أجانب وعرب مشاركون في مؤتمرات لا مضمون حقيقياً فيها. سياحة يقول الواحد إنه لا بد منها لدفع هؤلاء إلى فهم ملموس للقضية التي يناصرونها. لكنها أيضا سياحة لا تخترق أكثر من القشرة، ولا تراكم إلا انطباعات أولية عن أزقة ضيقة وأطفال يعيشون في ما لا يليق بطفل أن يعيش فيه. سياحة أجانب يشترون الكوفيات وعلاقات مفاتيح تتدلى منها خرائط فلسطين أو حنظلة ناجي العلي أو غيرها. ويمشون ملتقطين الصور، موزعين الابتسامات. أو سياحة عربية لا تنقصها المفردات. المشهد الذي لا يمكن أن أنساه في مخيم شاتيلا، هو ذاك الرجل من جنسية عربية يلقي خطاباً في فلسطيني عشريني كل ذنبه انه كان يقف، هكذا، في الزقاق، مستنداً إلى جدار. راح العرب يرصفون عبارات الدعم للشعب البطل، الجبار، المناضل، الذي لن يتوانى عن الاستشهاد كله، في سبيل فلسطين. كان يحكي والشاب ينظر في وجهه، وفي الغالب لا يرى إلا شفتين تتحركان ولا يخرج منها شيء.

الشاب نفسه، بعدما غادر الرجل العربي المخيم، عائداً إلى الفندق الذي ينزل فيه ضيفاً  عزيزاً مكرماً، قال لي أقسى كلام سمعته من فلسطيني. قال: اكتب: أنا مستعد للتنازل عن قبة الأقصى، ومعه صليب كنيسة المهد، من اجل متر مربع واحد في الدانمرك

لم يكن ليرتاح  إلي ويقول مثل هذا الكلام، لو لم أسخر من الخطاب التافه للرجل العربي. وبدا كمن يرد عليه بعدما منعه تهذيبه من مواجهته.

بلا عمل ثابت، بلا أفق واضح لمستقبل شخصي آت، بلا أي إمكانية لتحقيق السفر إلى الغرب بدا ابن العشرين عاماً مختنقاً بالنكبة التي ابتلى فيها شعبه، فلم يوفر أحداً: لو أن العرب تخاذلوا فحسب، لهان الأمر. لكنهم تاجروا بالقضية. قاسوها بميزان الربح والخسارة.

والقوى السياسية الفلسطينية لم تكن أحسن حالاً. ولبنان سيظل يعاقب الفلسطيني إلى الأبد، يغلق عليه جدران المخيم وينساه. الشاب، في اختناقه، كان مستعداً لاستبدال مسجد وكنيسة، بمتر مربع واحد في أوروبا، يُحترم فيه الإنسان. استخدم رمزين غاليين ليستبدلهما بالرمز الأكثر كثافة في ذهنه: الأرض، حتى لو كانت تلك البعيدة. الأرض كثابت ارسخ في الذهب على أنه المفتقد الذي تبنى عليه بداية الحلم.

أرض المخيم هذه، قد تصل بأبنائها إلى حد الكابوس، إلا أنها ملاذ الفلسطيني العادي في لبنان، من ظلم الخارج اللبناني. ولضيقها، دائماً لضيقها، تكاد تكون أغلى ما يمتلك. فيما تظل رموزه حية، وهو  يحتاجها لا كي لا ينسى فلسطين، بل كي لا يخسر نفسه. استغرب معظم اللبنانيين إصرار فلسطينيي البارد على العودة إليه حيث كان تحديداً، كما استغربوا حبهم لمخيمهم. اللبناني لا يرى من المخيم إلا جدرانا محيطة به، عالية. وسلطات ما بعد الحرب كانت مهتمة في مشاريعها العمرانية، في بيروت على الأقل، بألا تدع للبناني مجالاً للاحتكاك بالمخيم إلا من بعيد، حيث لا يضطر إلى المرور في مخيم لإكمال طريقه إلى عمله، أو نزهته، أو ما شئت. اقتصر المخيم عند اللبناني على جدران غير متناسقة تشكل في مجموعها سوراً يخفي خلفه مجهولاً,

رنا الحسن كانت في سنتها الجامعية الاخيرة كطالبة هندسة معمارية، حين قررت ان يكون مشروع تخرجها عن المخيم. أو ما رأته الصبية هو هذا السور، والتفاف الطرق من حوله، ولو قدر للعمران أن يطمس وجوده فلا بأس. هكذا كان عليها، في رسوماتها، فتح شبابيك في السور. بالطبع، لم تقل: فلنبن لهم مخيماً جديداً في مكان آخر، كما قال أكثر من سياسي لبناني بعد الكارثة التي حلت على البارد. هي رأت أن الحل الأفضل هو في النوافذ، التي تُدخل الضوء والهواء إلى الأزقة، وتُدخل معها العين اللبنانية إلى هذا الداخل. الفراغات التي رسمتها، اضطراراً، ألغت فيها شققاً في الأبنية، في طوابق مختلفة، ورفعت طوابق أخرى تعوض ما أزيل لفتح السدود الحجرية. ولأنها كانت إلى هذه الدرجة واقعية صنعت ساحات عامة، حيث هي "الساحة" العامة ذات الأمتار المربعة القليلة في مخيم شاتيلا.

و"بنت" مقر صحيفة يومية في قلب المخيم. مكان مقصود كهذا، سيجلب اللبنانيين على اختلافهم إلى المكان.

كان يمكن للحسن أن "تهشم" في رسوماتها ما تشاء من أبنية لتشق طرقات واسعة، وتبني أبنية جميلة يدخلها الهواء والشمس. كان يمكنها أن ترسم مخيماً نموذجياً وكان هذا أسهل، لو أنها لم تلتقط عصب العلاقة بين الفلسطيني ومخيمه هي فعلت ما لا يفعله غيرها من اللبنانيين الذين يرون جميع المخيمات على صورة واحدة، ويتعاملون معها تعامل عرق مع عرق آخر: كلكم تتشابهون.

المخيمات لا تتشابه، كما القرى اللبنانية لا تتشابه إلا لمن شاء أن يراها كذلك. الأزقة هنا لها أسماء والحارات كذلك. ولها، قبل أي شيء آخر، الذكريات. محمود الذي وقف معي على سطح مبنى يطل على خراب مخيم البارد، راح يشكل دوائر في الهواء شارحاً عن الأحياء في المكان الذي أمامه. زوجته غنمت من بيتها المسوى بالأرض حجراً كان جزءاً من غرفة في بيت  لوّن العروسان الجديدان غرفة بألوان كثيرة. غنمت حجراً. غير أنها، خارجة من البارد وعائدة إلى غرفة المدرسة في البداوي، نسيت الحجر في سيارة الأجرة. حين تذكرته، بكته كما بكت البيت. من المدرسة، انتقلت هذه العائلة بطفلها إلى البراكسات الحديد في المخيم الجديد. الشابة نفسها عادت لتزين الجدران الحديدية للغرفة التي يظن الواحد أنه لا تطاق. إنه الأمل.

أعتقد ان،  هذا الأمل نفسه، هو الذي يجعلهم يسارعون إلى الابتسام للضيف، للاهتمام به، لإشعاره بأنه في بيته. في العادة، أدخل إلى المخيم مرتاحاً، وأخرج بأعصاب ترقص لشدة ما أكون شربت من قهوة وشاي وعصير. لا مفر من أن تدعى، أنت الذي يرون وجهك للمرة الأولى إلى البيت وأن تحتسي القهوة والشاي. وليس مفيداً تكرار لازمة أنني، بعد ثلاث ساعات من التجوال مثلاً، قد أخذت كفاية عشرة أشخاص من الكافيين.

وكما البيوت تفتح، كذلك القلوب. لديهم الجرأة في فلش  حيواتهم بمشاكلها كلها، أمام اللبناني. لماذا؟ يمكن الواحد أن يقول إن لبنان يبتعد عن المخيم، والمخيم يبتعد بدوره عن لبنان. لكن هذا ليس صحيحاً. لا يُستقبل اللبناني بكل هذا الترحاب إذا كان المخيم يفضل عزل نفسه. في حرب تموز، وجد الجنوبيون الذين نزحوا إلى المخيمات، أناساً يتقاسمون معهم غرف بيوتهم الضيقة، ويتقاسمون اللقمة، وقبل كل شيء، الابتسامة. في مدارس مخيم البص، صب اللبنانيون جام غضبهم على الدولة اللبنانية التي لا تلتفت إليهم،  لكنهم كالوا المديح للفلسطينيين الذين أخذوا على عاتقهم الاهتمام بكل شيء، من الوجبة اليومية الساخنة (في مثل هذه الظروف، كان يجب أن تصل الوجبة الفلسطينية إلى العائلة النازحة ساخنة. هذا تفصيل يقول لتارك بيته قسراً كم هي كرامته محفوظة)، إلى تنشيط الأطفال في ألعاب جماعية، إلى ما لا ينتبه إليه أحد في وحشة الحروب: الصداقات التي عقدت بين النسوة الفلسطينيات واللبنانيات، بنيت على ما نظنه تافهاً. فالفلسطينيات اللواتي لا قدرة لديهن لاستقبال عائلات في البيوت، فتحن أبوابها لحادات اليومية للنسوة من الاستحمام إلى غسل الثياب. في اسباب هذا الحب، لا أحد يعرف حادة اللاجئ كما اللاجئ. لكن اللجوء لمن ولد وعاش في المخيم الذي لا خيمة واحدة فيه، هو حالة نفسية أكثر مما هي واقعية. الأرجح أن، كل هذا الحب للنازحين كان مرده إلى حاجة الفلسطيني لكسر صور خاطئة عنه وعن مخيمه ما زالت تنتصب في وجهه عند كل مفترق. في كارثة مخيم نهر البارد المستمرة، نكب الفلسطينيون حرفياً، ومع ذلك، اتخذوا موقف المدافع عن نفسه، في محاولة لطرد تهمة الإرهاب عنهم قبل ذلك، كان خروجهم الجماعي من المخيم، هذا الذي ندموا عليه لاحقاً وبشدة، إثبات حسن نية لم تلق بالاً عند سياسيين لبنانيين يرون أن بقاء الفلسطيني على أرض لبنانية، نعمة له ومشكلة للبنانيين يجب حلها. هكذا، تصير المطالبة ببقاء رقعة الأرض التي كان عليها المخيم امرا مستهجناً.

فعلاً، ما الفارق بين مخيم ومخيم؟ أو بالأحرى، ما الفارق بين مخيم مبني وآخر مسوى بالأرض؟ وبالتالي، ما دام وجودهم باعترافهم موقتاً، لماذا لا يمضون حياتهم كيفما اتفق ريثما يعودون أو يأخذهم الغرب عنا دفعة واحدة وإلى الأبد؟

مؤخراً تقدم الفلسطينيون خطوة واسعة: طالبوا بحقوقهم المدنية. فتحت نار جهنم عليهم. خلع سياسيون لبنانيون، ومن خلفهم صغارهم، القفازات. استخدموا في وصف اللجوء الفلسطيني في لبنان مفردة "مشكلة" بكثافة غير معهودة، وأعلنوا رمي هذه المشكلة على الخارج. بل إن وزيرة جديدة لم أكن سمعتها تحكي،  حللت على شاشة التلفزيون، وليس في مجلس خاص مع زوجها وأولادها مثلاً، نظرية مفادها أن الفلسطينيين يريدون العودة إلى بلدهم، فإذا أعطيانهم حقوقهم المدنية، وارتاحوا، توقفوا عن المطالبة بالعودة إلى بلادهم.

النائب الآخر قال إن الكثافة السكانية في لبنان لا تحتمل. طلب من المذيعة أن تقسم مساحة لبنان على ملايينه الأربعة، ثم خرج بالنتيجة بنفسه: متران مربعان لكل واحد.

 

الصحيح إننا إذا قسمنا أربعة ملايين إنسان على 10452 كيلومتراً مربعاً، كانت النتيجة: 383 إنسانا في الكيلو متر المربع! أي 2611 متراً مربعاً لكل مواطن. أسوق هذه الحسابات لا لخوض نقاش في الكثافة السكانية التي لا يعرف النائب  عنها شيئاً، بل للتدليل على درجة استسهال الكلام في هذا الهجوم العشوائي الذي يشن على الفلسطيني إذا يقرر أن يخرج من مخيمه ويتظاهر، مطالباً بحقوقه، كي يتراجع شاب فلسطيني عن استعداده لمبادلة المقدسات بمترين مربعين في بلد يحترم الانسان.