من عجائب الحالة الفلسطينية أن تلجأ حركة حماس إلى سياسة حرق السفن في الصراع الداخلي في هذه المرحلة بالذات.

ففي الوقت الذي وقفت القيادة الفلسطينية بكل قوة وشجاعة في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وفي مواجهة التماهي الأميركي التام مع الأهداف الإسرائيلية، وفي الوقت الذي تتعرض فيه السلطة الوطنية لكل أنواع الحصار والابتزاز الإسرائيلي والأميركي والاستهداف الخاص والمركّز ضد الرئيس أبو مازن، في هذا الوقت بالذات تخرج حماس على الشعب الفلسطيني بسياسة غريبة ومحّيرة، بل ومريبة تطالب برحيل الرئيس، وتحشد قوتها وإعلامها وأدواتها، بل «ومواردها» لحملة منظمة ومنسقة علناً وعلى رؤوس الأشهاد! كأن حركة حماس أصيبت فجأة بلوثة عقلية، أو «مسهّا الجن» وخرجت عن كل ممكن ومعقول، وفقدت كل سوية أو باقي السوية التي كانت لديها.

شيء لا يصدقه العقل وسياسة خارجة عن كل منطق وسياق. أفهم ولا أتفهم أبداً أن تكون هناك سياسات مبنية على الوهم، وناتجة عن حالة مزرية من الانفكاك عن الواقع.

وأفهم ولا أتفهم أن يصل الانفكاك عن الواقع إلى درجة المغامرة، ولكنني لا أفهم ولا أتفهم أن تصل الأمور إلى سياسة حرق السفن كلها ودفعة واحدة.

لا يستقيم الأمر بأي زيادة كمية في علامات التعجب وعلامات الاستفهام.

وليس كافياً أبداً أن يبين الكاتب السياسي ما في هذه السياسة من غرابة، أو يطنب في وصف ما هي عليه من جهل، وما تثيره من استنكار.

الأمر أبعد من ذلك وأخطر من ذلك مع الأسف.

هل راهنت حركة حماس من خلال شعارها المطالب برحيل الرئيس على خلق حالة من الاصطفاف السياسي العريض، وبالتالي خلق حالة شعبية تقف خلف أو إلى جانب هذا الاصطفاف؟ يمكن أن تكون حركة حماس قد راهنت على مثل هذا الأمر. لكن السؤال الذي يُطرح هنا:

كيف اهتدت حركة حماس إلى مثل هذه المراهنة في الوقت الذي تخوض الولايات المتحدة وإسرائيل ضد الرئيس ما تخوضه من معركة معلنة؟

ألم يستوقفها أن شعار رحيل الرئيس هو نفسه شعار غلاة المستوطنين!

أيعقل أن حركة حماس لم تنتبه إلى ذلك؟!

وبما أنه لا يعقل ذلك أفليس الأمر إذن أكبر وأبعد وأخطر من مجرّد سوء تقدير؟

ألم ينته الأمر إلى فقاعة إعلامية مضحكة؟ وهل وجدت حركة حماس ولو حليفاً أو صديقاً واحداً مهما كان، يؤيدها في طرح هذا الشعار؟

ألم تستنكر القوى كلها وتستهجن هذه السياسة أو تتنصل بل وتسارع إلى التنصل منها؟

وبعد فشل وسقوط هذه المراهنة، ماذا يعني الاستمرار في الدعوى إلى التظاهرات الداعية إلى رحيل الرئيس، ومحاولة إخراج عناصرها إلى الشوارع مرة أخرى؟ ألا يعني هذا كله بأن هناك شيئاً ما اكبر وأهم وأخطر من فشل المراهنة؟!

ترى ما هو هذا الشيء؟

ولماذا سقطت حركة حماس في هذا الامتحان الفاصل؟

وما الذي «أجبرها» على خوض معركة اعتبرتها فاصلة وكانت نتيجتها العزلة والفشل والانكشاف؟!

أنا شخصياً استمعت إلى عشرات الكوادر من المؤيدة لحركة حماس تستهجن هذه السياسة وتتعجب من الخفة السياسية التي تنطوي عليها.

وكان السؤال: لماذا الآن؟ ولماذا بالتزامن والترافق مع الحملة المعادية للسلطة بسبب صلابة وشجاعة موقف القيادة من «صفقة القرن» وموقف الرئيس تحديداً.

وباستثناء غلاة العصبويين كان موقف الناس إما مستنكراً لهذه السياسة أو مستهجناً أو رافضاً أو غير متفهم لتوقيتها أو مشكك في القصد منها.

ومع ذلك استمرت حركة حماس في غيّها ومكابرتها، ولم تتراجع إلاّ بعد أن اصطدم رأسها وارتطم لعدة مرات متتالية، وكان وما زال هذا التراجع موارباً وتقطر منه سموم سياسية لا تحسد حركة حماس عليها.

أعود الآن إلى بيت القصيد، ما هو هذا الشيء؟!

بيت القصيد يا سادة يا كرام هو حل المجلس التشريعي، والقرار بالانتخابات، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني من جديد.

لأن حل المجلس التشريعي معناه أن حركة حماس إما أنها ستتجاوز هذا الأمر وتنخرط في النظام السياسي الفلسطيني وتقبل بما تتطلبه عملية الانخراط السياسي بما في ذلك الإنهاء «الموضوعي» لحالة الانقسام والذهاب إلى شراكة وطنية جديدة ليس فيها استفراد أو تفرد، ولا إحكام وتحكم، ولا سيطرة ولا سطوة ولا هيمنة أو تكويش... أو أنها (أي حركة حماس) يجب أن تقلب الطاولة وتختلق المعارك، وتفتعل الأزمات من أجل محاولة الاستمرار بالتحكم الكامل بقطاع غزة، حتى ولو أدى الأمر إلى فتنة شاملة وحرب أهلية.

ولماذا؟ لأن حركة حماس لم تكن في يوم من الأيام مستعدة تحت أي ظرف، ولأي سبب مهما كان، وتحت أية ضغوط مهما بلغت... لم تكن مستعدة وهي ليست مستعدة اليوم وهي لن تكون أبداً مستعدة للتخلي عن التحكم التام بقطاع غزة.

لماذا؟ لأن التحكم بقطاع غزة في ظل ما توحي به «صفقة القرن» يعني ضمان بقاء حركة حماس في سدة حكم القطاع.

وبين أن تنحاز حركة حماس إلى خيار إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني والشراكة الوطنية مع بقية أطرافه، وبين بقائها منفردة ومتفردة بحكم القطاع اختارت حركة حماس الخيار الثاني وخاضت جولتها الأولى وخسرتها خسارة فادحة من خلال شعار رحيل الرئيس.

وعلى كل وطني فلسطيني تعزّ عليه وطنيته أن يحضّر نفسه لأزمات مفتعلة، وفتن مخبّأة في الجوارير والأدراج، ومعارك ما أنزل الله بها من سلطان ما دام الأميركان يلوّحون لحركة حماس من بعيد بـ "صفقة القرن"، وما دام نتنياهو مؤمناً «بالأهمية الاستراتيجية» للتهدئة مع القطاع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وما لم يضطر تحت التهديد بخروجه من الحياة السياسية والسقوط في الانتخابات من الاعتذار الشديد لحركة حماس عن الضربات العسكرية التي يجهّزها للقطاع وصولاً إلى إعادة احتلاله من جديد إن اقتضت الضرورة الإسرائيلية.

أما عقلاء حماس والحالة هذه فمسؤوليتهم باتت مضاعفة، وحملهم ثقيل، أعانهم الله عليه.