من حقِّ كل إنسان الإدلاء برأيه، والتعبير عما يعتقده، ويتبنّى ما يراه منسجمًا مع توجهاته. لكنّ ما تُقدِّم من حرية الرأي والتعبير والتفكير ليس مطلقًا، لأنّ الإطلاقيات تحمل في ثناياها انعكاسات فوضوية، وعبثية، ويكون لها مردود عقيم على المجتمع المحدد. وهو ما يفرض أن يكون عند كل إنسان في مجتمع محدّد ضوابط ومعايير تحكم محاكاته للواقع، ويخدم قضيته الفكرية السياسية، والاجتماعية، أو الثقافية، لا سيما أنَّ الأفراد والجماعات، والأحزاب والتيارات، والطبقات، والنقابات، والبرلمانات كل منها يعمل على أرضية صيانة وحماية وحدة المجتمع، وتعزيز العقد الاجتماعي فيه، والعمل على نهوضه، وتطويره، والارتقاء بمنظوماته القانونية والسياسية، لا العكس.

الدكتور نشأت الأقطش، رئيس دائرة الإعلام في جامعة بيرزيت، له وجهة نظر، يدَّعي أنَّها خاصّة، لا ترتبط بأحد. وأنا شخصيًّا قُلتُ له أكثر من مرة في لقاءاتٍ جمعَتنا، إنَّ رؤيته تصب في خدمة الجماعات والتيارات الإسلاموية المتناقِضة مع المشروع الوطني، خاصّةً حركة الإخوان المسلمين في فلسطين، ودائمًا كان ينفي ذلك، ويؤكِّد أنه مستقل. ومن موقعي كمستقل، فنحن معشر المستقلين، لسنا مستقلين بالمعنى الحرفي للكلمة، فنحن لنا رؤانا وانحيازاتنا الفكرية والسياسية، وبالتالي الاستقلالية نسبية، وليست مطلقة. ولا يمكن لأي مستقل إلّا أن يكون له خلفيته، وانحيازه لهذا التيار أو ذاك.

وما أدلى به الدكتور الأقطش في برنامج الاتجاه المعاكس أمس الثلاثاء، بمشاركة الصهيوني إيدي كوهين، مع الإعلامي في فضائية الجزيرة، فيصل القاسم دليل قاطع على ما ذكرتُهُ آنفًا. فعندما يفتي الإعلامي الفلسطيني، بأنَّ منظمة التحرير الفلسطينية، لم تَعُدْ الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، لأنها لا تمثِّل أكثر من 30% من الشارع الفلسطيني، متذرِّعًا بانتخابات 2006، على اعتبار أنَّها معياره، وهو ما يؤكِّد استخلاصي، لأنَّ ما طرحه يتساوق تمامًا مع ما جاء من مواقف متناقضة مع مصالح الشعب وثوابته من القوى الإسلاموية (حركتَا الجهاد وحماس) في لقاءات موسكو الفلسطينية في 12 من شباط/فبراير الحالي. ويتناغم في ذات اللحظة مع ما تعمل عليه دولة الاستعمار الإسرائيلية، حيث ادّعى أحد قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية أمس الأول الثلاثاء أيضًا، أنَّ "إسرائيل تمكَّنت من إفراغ منظَّمة التحرير من محتواها، وأنَّها تمكَّنت من تحويل الفلسطينيين إلى مجموعة من القبائل والعشائر وروابط القرى، وبالتالي لم يعد موضوع الدولة المستقلة مطروحًا، بل دويلات عشائرية وقبلية منتشرة في الضفة الغربية، و"حماس" تحكم قطاع غزة، لأنّها ووفق ما ذكر ذلك الجنرال، تمكَّنت من فرض سيطرتها على المواطنين بالإرهاب". كما أنَّ ما جاء على لسان المقطوش الأقطش، ينسجم مع ما جرى في وارسو، وما تسعى إليه الإدارة الأميركية من تمرير صفقة القرن المشؤومة.

وعليه فإنَّ ما جاء في رسالة الاعتذار، التي أرسلها الدكتور نشأت للجامعة، لم يتخلَّ فيها عمَّا جاء على لسانه، ولم يستنكر موقفه وخطيئته ضد الممثِّل الشرعي والوحيد، منظَّمة التحرير الفلسطينية. وكأنَّ ظهوره مع الإسرائيلي المستعمر كوهين، هي المشكلة؟ لا ليست المشكلة الظهور مع ايدي كوهين، بل المشكلة في تواطؤكَ مع الرؤية، التي صفَّق لها الإعلامي الإسرائيلي. ولا المشكلة في الظهور مع فيصل القاسم، الذي يبحث عن الأكشن، واللمعان الفاضي والفارغ، وتمرير هدف فضائيته المتصهينة (الجزيرة) التطبيع المجاني مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، بل في انغماسك في متاهة الاعتداء على تمثيل "م.ت.ف"، للشعب، والانتقاص من مكانة العمود الفقري للشعب الفلسطيني، منظمة التحرير.

وعود على بدء، أنتَ استندت إلى الانتخابات التشريعية 2006، وأنا شخصيًّا أُعيدكَ لنتائج تلك الانتخابات وبالنسب المئوية، حيث حصلت "فتح" على الأغلبية في صناديق الاقتراع، ونسبة ما حصلت عليه يمثل 54%، ولكن مشكلة "فتح" تمثَّلت في تشرذم وتنافس مرشحيها ضد بعضهم البعض، وترشُّح 75 عضوًا خارج قائمتها ودوائرها، وهم أعضاء من حركة "فتح"، ما أفقدها الأغلبية في تلك الانتخابات؛ وثانيًا منظمة التحرير لا يقاس تمثيلها بما حصلت عليه حركة "فتح"، لأنَّ "فتح" على مركزية دورها في منظمة التحرير، ليست وحدها تمثِّل منظمة التحرير، فهناك فصائل ومستقلون وقطاعات من الشعب لا انتماءات لها، تتمسّك بمنظمة التحرير، كممثِّل شرعي ووحيد لها، كما أنَّ مكانة منظمة التحرير لا ترتبط بما تقدم، إنَّما بما لها من دور مركزي وتمثيلي للشعب الفلسطيني معترف به عربيًّا ودوليًّا.

إذًا مكانة ووزن منظمة التحرير أيها الإعلامي المنحاز حتى النخاع لحركة الانقلاب الحمساوية، لا تقاس بما تحصل عليه الفصائل من نسب ومقاعد في البرلمان، بل برصيدها، وبالتضحيات الجسام، التي قدمت على مذبح الثورة دفاعًا عن أهداف ومصالح وثوابت الشعب. ولم يأتِ الاعتراف بالمنظمة تبرُّعًا من الأنظمة العربية، والأمم المتحدة، ولا لسواد عيون قيادتها، ولا لأنَّها حصلت في صناديق الاقتراع على أعلى نسبة في التصويت، إنَّما لإدراكهم أنَّها، هي الممثِّل الشرعي والوحيد، وللثمن الذي قدَّمته فصائل المنظمة على طريق الدفاع عن الثورة، عندما كان الفاسدون، اتباع جماعة الإخوان المسلمين، يعتبرون شهداء الثورة "فطائس"، وغيرها من العبارات الدونية والمجرمة بحق دماء أبطال الثورة، والذين هم أنبل منّا جميعًا، وما قدَّموه من دماء أعظم ألف مليون مرة من كلِّ صناديق الاقتراع، التي تتحدَّث عنها. وبالتالي معاييرك ساقطة، وواهية، ومقطوشة، ولا أساس علميا لها، بل هي إسقاطات رغبوية مجافية للواقع والحقيقة، وفيها ركض في متاهة الآخر الإسلاموي والقطري والإسرائيلي. وعليك أن تعتذر للشعب الفلسطيني، ولدماء الشهداء جميعا، ولمنظمة التحرير عن السقطة الخطيئة، إن كنت معنيا بتصويب موقفك، مع أنَّني اعتقد، أنَّك تتماثل مع حركة "حماس" باستعمال فلسفة "التقية"، وبالتالي يمكن أن تعتذر لحين، ثُمَّ تعود لموقعك، ومربطك.