ذكَّرنا برنامج "الاتجاه المعاكس" الذي يبثّ من فضائية "الجزيرة" في حلقته الأخيرة، بفيلم من ستينيات القرن الماضي هو فيلم "الرجل الذي فقد ظلَّه" للمخرج المصري كمال الشيخ، وحكاية الفيلم أنَّ رجلاً من عالم الصحافة، يصعد بانتهازية فاقعة، على أكتاف زميل له من أجل تحقيق طموحه الفردي، ضاربًا كلَّ القِيَم الأخلاقية والتقاليد الإنسانية، وخائنًا لطبقته الاجتماعية الوسطى، من أجل أن يكون واحدًا من أبناء الطبقة الأرستقراطية من خلال سعيه للارتباط بامرأة من هذه الطبقة!!!

المفارقة المؤلمة أنَّ رجل الصحافة في "الاتجاه المعاكس" وليس كما في الفيلم المصري، وبتطرّف ثورجي انتهازي بالغ، كان يصعد ببعض لغة الألم الفلسطيني على أكتاف أصحاب هذا الألم ذاتهم، وبدا وكأنّه يشتم حتى ذاته وهو يطعن بممثِّله الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية، حين اتّهمها بأنها تعادي دولة (إسرائيل) في العلن بينما تعمل في الباطن على تثبيتها!! عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى الذين ساروا في دروب النضال الوطني تحت راية منظمة التحرير، من أجل حُرّية فلسطين واستقلالها، كانوا وفق ما يريد الاتجاه المعاكس فقط لتثبيت دولة (إسرائيل)!!! والمدهش هنا أن (إسرائيل) ذاتها تقر أنّها ترى عكس ذلك تمامًا، وتعترف أنَّ شهداء فلسطين وأسراها يقضون مضاجعها، برغم غيابهم المادي والقسري، بدلالة أنَّها تقرصن اليوم أموال المقاصة الفلسطينية، لأنَّها التي يدفع منها رواتب الشهداء والأسرى الذين تصفهم (إسرائيل) بالإرهابيين!! تُرى إلى أين تريد لغة الدولار هذه أن تأخذنا؟؟؟ نعرف أنَّ "الاتجاه المعاكس" برنامج باذخ الدفع للمشاركين فيه، ثلاثة آلاف دولار، لكلِّ مشارك في كل حلقة، وما خفي أعظم إذا ما كان ترتيب الآراء والمخرجات وفق ما يريد أصحاب البرنامج متّفقًا عليها!!

وعن التطبيع الذي كان موضوع حلقة هذا البرنامج، تنافخ رجل الصحافة ضد التطبيع وهو يحاور بتطبيع إعلامي فاضح "الطرف الآخر" الإسرائيلي الذي تنافخ هو الآخر بإنجازات حكومته بهذا الشأن التي قال إنّها كانت باهرة في مؤتمر وارسو!! والخلاصة أنَّ رجل الصحافة وهو يتهم بحوار مطبّع الكل العربي الرسمي بأنه لتثبيت دولة (إسرائيل) (!!) لم يكن هو قبل صاحبه الإسرائيلي، يخدم غير هذه المقولة، غير الصحيحة موضوعيًّا وهو يردّدها بتجريد عدمي مطلَق، لأنَّ هناك من الأنظمة العربية من استشهد فعلاً في سبيل القضية الفلسطينية، ولا نظن أنَّ رجل الصحافة هذا لا يعرفها، ولا نظنه لا يعرف كذلك أن ما سمي بالربيع العربي إنّما كان من بين أهدافه، فك ارتباط النظام العربي بالقضية الفلسطينية، ولو كان هذا النظام لتثبيت دولة (إسرائيل) وأنَّه ناجح تمامًا في هذه المهمة وهذا الدور، ما كان لهذا "الربيع" الأخرق أن يكون.

رجل فقد ظلَّه، ومَن يفقد ظلّه، لا حقيقة له ولا مستقبل، ومن لا حقيقة له ولا مستقبل، يظل مجرد سلعة، وإذا ما كان من عالم الصحافة والإعلام فإنّه السلعة المطلوبة دائمًا في أسواق التهريج والعبث الإعلامي التي أكثر من يجسِّدها اليوم برنامج الاتجاه المعاكس.