في عام 1974، وبعد عشر سنوات على قيام منظَّمة التحرير الفلسطينية اعترفَ بها العالم أجمع ممثِّلاً شرعيًّا وحيدًا للشعب الفلسطيني، وكان هذا الاعتراف التأسيسي بالغ الأهمية، بل هو أعظم اعتراف على الإطلاق حقَّقه الشعب الفلسطيني بعد نكبته المفجعة التي حدثت عام 1948. فالنكبة الفلسطينية حدث مأساوي ضخم أكبر ألف ألف مرة من الهزيمة، ففي العام 1948 أنهى تواطؤ دولي خارق القسوة كلَّ حيثيات الوجود الفلسطيني بقوة الحديد والنار، وشطبَ اسم هذا الشعب عن خارطة العالم. فقد تمَّ تهجير هذا الشعب كأنَّه كومة من الغبار أُلقيَت في وجه العاصفة الهوجاء، وتحوَّل وجوده الفعلي إلى أشلاء ليس بينها رابط موضوعي قادر على التحقُّق، وارتدى هذا الشعب رغمًا عنه أرديةً بأسماء مستعارة صارت هي الأساس، اللاجئون، العائدون، المخيّمات، وغابت القيادة الفلسطينية نهائيًّا عن دائرة الحضور والفعل، حتّى أنَّ النضالات العظيمة، والتضحيات الهائلة التي قام بها شعبنا في ذلك الوقت سواء عبر مجموعات أو أفراد لم تكن تُذكَر بِاسمه، ولم تكن تُصنِّف معطيات حضوره، بل كانت تنُسَب إلى ما يُسمّى بعمليات تخريبية غامضة، وكانت المسؤولية عنها تُحمَّل إلى جهات متعدّدة ليس من بينها اسم فلسطين.

في العام 1974 حين جاء اعتراف الأمم المتحدة، أي العالم بالمنظّمة ممثّلاً شرعيًّا وحيدًا، لم يكن الأمر عاديًّا، ولم يكن الإنجاز مألوفًا، فأعلى درجات الجهد العربي تمَّت بتناسق في ذلك الوقت حتى تحصل على هذا الاعتراف، وكانت حرب تشرين الخالدة هي من أهم الأركان وكان اسم فلسطين حاضرًا فيها على جميع جبهاتها، وكان هناك زعماء عرب من النوع الخارق موجودين آنذاك، منهم الملك فيصل الذي ما زال اسمه مخيفًا وكان العالم يتساءل، ماذا لو أن نموذجه ساد في العالمين العربي والإسلامي؟؟؟ وكان عبد الناصر ومن بعده السادات، عقولاً عصيّة على كل إمكانيات السيطرة، وكان الملك المغربي محمد الخامس من أفذاذ العقول السياسية، وكان هواري بو مدين الذي أصبحت مقولته مثل مقولات الانبعاث الكبرى، "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، وكان ياسر عرفات أبو عمّار الذي يزرع فلسطين حاضرةً في كل المساحات الفارغة.

في الاجتماعات الفلسطينية التي استضافتها موسكو مؤخّرًا، رفضت حركة "حماس" بتعمُّد ورفضت حركة "الجهاد الإسلامي" بتعمُّد- وهما الممثّلتان للإسلام السياسي السني والشيعي- التوقيع على البيان النهائي الذي أهم ما فيه التأكيد على أنَّ منظمة التحرير هي الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ما يعني أنَّ حركتَي حماس والجهاد، وتنتمي كل واحدة إلى مركز إقليمي معادٍ للآخر، بحاجة ملحّة الآن إلى إعادة تعريف نفسيهما، فإذا كانت "حماس" ليست فلسطينية، وإذا كانت حركة "الجهاد" ليست فلسطينية، فماذا هما على وجه التحديد؟

وأنا أشعرُ بالفخر والاعتزاز لأنَّ موقف الشرعية واضح كلَّ الوضوح، لا صلة، ولا حوار، إلّا إذا عادت "حماس" و"الجهاد" إلى تعريف نفسيهما.. من هُم؟ إلى مَن ينتمون؟ في أيِّ فضاء يتحركون؟؟؟

"حماس" و"الجهاد" بهذا المنطق تخونان فلسطين بشكل فاجر مبالَغ فيه كما لو كانتا قنبلتين موقوتتين أو مادة لداء خطير وقاتل، موجود في الخفاء لحقن فلسطين بالموت!!! إنَّ ممارساتهما زادت عن الحد الذي يمكن السكوت عنه، ويظهر الآن مدى العمق التاريخي الذي كان يتمتَّع به رئيس حركة النهضة التونسية الغنوشي حين خاطب اجتماع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين قائلاً لهم: "إنَّ أيَّ حزب إسلامي ليس له غطاء وطني، محكوم عليه بالموت"، وأنا أزيد محكوم عليه بالكفر البواح وبالموت، وهذا ما فعلتاه "حماس" و"الجهاد"، وهذا هو المصير، وما أبشعَ مصير كلّ الذين خانوا فلسطين حين أخذتهم الآخذة وهم جاهلون ومحتقَرون، ولا يربح الخائنون.