لن تذهب المملكة العربية السعودية بعيدًا عن المشهد الفلسطيني، ولن تغمض عيونها أو تضع رأسها في الرمل أمام استحقاق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية.

وكلُّ ألوان التعمية التي تُطلقها (إسرائيل) ومحاولات التشويش والتسريب والتزوير والتصريحات الموظَّفة للانتخابات من جانب القادة الإسرائيليين، وعلى رأسهم "الفهلوي" نتنياهو، لن تجعل زرقاء اليمامة لا تُبصِر، وإذا كانت المملكة قد أرادت مَوْضَعَةَ مواقفها لاعتبارات وطنية على المستويات الداخلية والخارجية كشكل من أشكال التوازن والتحديث والمواكبة وإعادة إنتاج المواقف، فإنَّ ذلك لن ينسحب على القضية الفلسطينية التي ظلَّت بالنسبة للمملكة السعودية قضيةً مركزيّةً وأساسيّةً تستند إلى جزء من العقيدة والعروبة والوطنية، وهذا ما أكَّده دائمًا الرئيس محمود عبّاس، وحتّى في أكثر اللحظات قسوة وصعوبة وهبوب رياح سموم، وأكَّده أمس الأول على قناة العربية أمين سر اللجنة المركزية لحركة "فتح" اللواء جبريل الرجوب.

للسعودية مُطلَق الحق في الحركة السياسية والدبلوماسية لتصليب موقفها والموقف الفلسطيني وإمداده بكلِّ الأسباب السياسية ليظلَّ ممسِّكًا بحقوقه، وهي لا تُلام على اتّخاذ ما تراه مناسبًا، من أجل الاقتراب أكثر من الحقوق الفلسطينية والدفع بحلول عادلة لها إلى الأمام.

لقد انتهى الزمن الذي تكون فيه فلسطين من دول الضد أو الـ"مع"، فقد تعلَّمت فلسطين أن لا تدخل بين "البصلة وقشرتها"، كما تعلَّمت أن لا تغزو حين يقع الغزو أو أن لا تُردِّد "وما أنا إلّا من غزية إن غزت غزوت وأن ترشد غزية أرشد".

تعلَّم الفلسطينيون في مواقفهم الخارجية إزاء المنطقة والإقليم بفضل قيادة الرئيس عبّاس أن لا يدخلوا في سياسة المحاور أو الانحيازات.

والرئيس عبّاس لا يُكلِّف الأنظمة العربية فوق طاقتها حين تتعامل مع القضية الفلسطينية، ولا يجلدها إن أبطأت أو أظهرت قُصورًا مبرَّرًا، وهو يرى عذرها ممَّا أصابها من ربيع عربي فيه تمزُّقٌ وضعفٌ، ولكنَّ معياره ظلَّ دائمًا هو باتجاه البوصلة، وأن تبقى البوصلة العربية باتجاه القدس عربية إسلامية وباتجاه القضية الفلسطينية التي ارتضتها الشرعية الدولية.. ومن هنا تبدأ القراءة الفلسطينية للمواقف العربية بلا مزايدة أو مناقصة، وأخذ بالقول: "المؤمن القوي بالقضية الفلسطينية خير من المؤمن الضعيف وفي كلِّ خير"، وهو يريد من النظام العربي أن يُدين ويستنكر عمليًّا الاحتلال الإسرائيلي وممارساته المتمثِّلة في القمع والقتل وهدم البيوت وتجريف الأرض واقتلاع المواطنين واستيطان الأرض وإنكار الحقوق الوطنية لشعبنا الفلسطيني، على قاعدة أنَّ هذا الاحتلال مُنكَر، ومَن رأى فيكم منكرًا فليُغيّره بيده (أي بالدعم المالي والتمكين للمؤسّسات الفلسطينية) أو بلسانه (أي بموقف سياسي عملي واضح عبر المحافل الدولية وفي مواجهة حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلية)، أما فبقلبه فيترك ذلك للعاجزين الذين يرجون الخروج من عجزهم، وأن يجعل النظام العربي مع دعائه من أجل فلسطين وقضيتها قليلاً من القطران الذي يُساعد على الشفاء.

المملكة العربية السعودية، لم تضل حتى الآن في الموضوع الفلسطيني حتّى وإن تحرّفت أو تحيَّزت لموقف أو تولَّت عن الاشتباك المباشر، فالرهان الفلسطيني عليها وعلى الدول المؤثّرة على فلسطين، وفي قضية فلسطين، وهي المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، فهذه ما زالت مواقفها متماسكة، وما زالت ثوابتها مقروءة وما زالت تستطيع أن تردَّ على موجات التشكيك والإحباط التي يروّج لها المخادع نتنياهو بأساليب عديدة نخبرها هنا في الأردن أكثر من غيرنا.

تُدرِك المملكة العربية السعودية الحال الفلسطينية والمؤامرة على شرعيّتها التي تحاول (إسرائيل) أن تجنّد لها أطرافًا عديدة بعضها بِاسم الدين وبعضها بِاسم الوطنية، وتُدرك أيضًا أنَّ الحصار المالي على الشعب الفلسطيني، والذي تتولّاه (إسرائيل) بحجز الأموال الفلسطينية المتأتية من الضرائب التي يستحقون عوائدها، في محاولة إسرائيلية قذرة تستهدف حرمان أُسَر الشهداء والأسرى والمعتقلين من أسباب الحياة لتخنق الجذر الفلسطيني وتوقف النسغ الحي فيه، وهي بذلك تريد إسكات نبض القلب الفلسطيني الممثل بالشهداء والأسرى الذين يمدون الشعب الفلسطيني بأسباب روايته وسر صموده ومقاومته وأحقية مطالبته بزوال الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية.

فالفلسطينيون وقضيتهم يتعرَّضون اليوم لأكبر حملات ضغط وحصار يأتي من الولايات المتحدة التي راهن بعض مقاولي إدارتها على كسب عطاء صفقة القرن، وتباروا في تقديم عروضهم ومناقصاتهم على الذي "يسوى أو لا يسوى" في محاولة لإرساء عطاء الصفقة على عرب ليُنفِّذوها، وحين أعجزتهم العقدة الفلسطينية التي أوقفت منشار ترمب والذي يعمل لصالح الصهيونية و(إسرائيل) والاحتلال ضجّت الإدارة، وبدأت بإغلاق حنفيات المساعدات، وحرمت الشعب الفلسطيني من أكثر من (900) مليون دولار من المساعدات، ورفض الفلسطينيون مساعدات أميركية تؤهّل أميركيين مجرمين وصهاينة أن يحاكموا المناضلين الفلسطينيين بِاسم مقاومة الإرهاب، إذ يشترط القانون الجديد المصوّت عليه في الكونغرس أنَّ من حق الأميركي أن يحاكم أي مواطن في أي دولة تتلقّى مساعدات أميركية!!

وصمد الفلسطينيون وصمدت قيادتهم ووضع أبو مازن رجليه في الحيط وردَّ على الذين أشفقوا عليه أنَّه صعد إلى الشجرة وأنَّه بحاجة إلى سلمهم لأنّه لا يستطيع أن يفرط وأنَّ القدس ليست للبيع، وأنَّه الفئة المؤمنة بالقضية الفلسطينية التي ستنتصر، وهو يدرك أنَّه لا يقوم بدور جيفارا، وأنَّه لا يُؤمن بصراع السلاح في هذه المرحلة، وأنَّه حين يقول إنَّه يريد المستقبل لأبناء (إسرائيل)، فلأنَّه يدرك بحكم الخبرة والوعي والتجربة أنَّه إن لم يرد لأبناء الإسرائيليين الحياة وطالب بقتلهم فسيكون الدور على أبناء فلسطين في فلسطين أولاً، وعندها سيخسر جيلاً كاملاً، وبالتالي سيقف أمام مقولة: "ماذا أستفيد حين أربح العالم الذي يحرضه على الانتحار ويخسر نفسه"، على السُذَّج وقاصري الفهم أن يقرؤوا موقف الرئيس محمود عبّاس في سياقه التاريخي والموضوعي، وإدراك معطيات الواقع وفق الواقع ليستبينوا الرشد وأن لا يقرؤوه على طريقة ولا تقربوا الصلاة، وأن لا يكتفوا بتعداد الشهداء والجرحى عبر شاشات التلفزيون وهم يستلقون أمامه يستهلكون الفوشار والمكسرات وما توفر من أشياء أخرى!!

الدم الفلسطيني المسكوب منذ عمر النكبة وقبلها ليس "بويا"، وليس من فصائل الدهانات، وصُوَر الشهداء ليست مشاهد تمثيلية من فيلم، وفلسطين الجغرافيا ليست مصابة بالجذام ليبتعدوا عنهاـ وإنَّما هي خندق ومتراس وسور في وجه الغزوة الصهيونية، لا بد من تعزيزه وتمكينه وصيانته والوقوف إلى جانبه لأنّ في انهياره انسيابًا لمجاري الاحتلال على كلِّ مقدس عربي.

الزيارة العبّاسية للمملكة العربية السعودية التي ستأتي الآن غاية في الأهمية، وهي إشهاد وإعلان على ما يجري في فلسطين، وما يواجه أهلها من صفقات وصفعات وتحميل للمسؤولية، بل توزيع لها كما يقتضي الدفاع عن الأقصى، وتذكير بمواقف تاريخية سبقت حين احتُلَّت القدس في التاريخ وجاءها الفتح وإن بعد حين.

ما زالت كلمات الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز ترن أذن الملك سلمان التي لم يصبها وقر ولن تتجاوز أسماعه بإذن الله.. وما زالت القدس أولى القبلتين ولم يصدر أي بيان حتى الآن بخلاف ذلك، وما زال صدى مكة يتردد في القدس وصدى القدس يتردد في مكة وما زال طريق الإسراء سالكًا، ولن يُستبدَل بطريق لطائرات الـ"عال" الإسرائيلية أو باصات "إيجد" للنقل العام الإسرائيلي، فما زالت خنادقنا قادرة على الصد بمواقف سياسية لا نرى أننا نفقدها مهما اعتمدت السياسة الأميركية المتماهية في (إسرائيل)، وفقدت ألوانها، ولم تعد ترى إلا العلم الإسرائيلي، إذا كان هناك ثمة طرطشات أو طفرات أو شرارات متطايرة مثلتها زيارة الوزيرة الإرهابية وزيرة الثقافة الإسرائيلية التي خرجت علينا من مسجد الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه في ثياب الواعظين بعظمة (إسرائيل) وقدرتها على الوصول، فإنَّ ذلك في قاموس التطبيع لا يعدو أن يكون فقاعات لا تلبث أن تزول حين تسطع عليها شمس الحقيقة وهي زبد سيذهب جفاء فما ينفع الناس يعرفونه ويمكث في الأرض.

ما زالت الأرض العربية ولودا لم يصبها العقم مهما مهرت (إسرائيل) وأميركا تواقيعها على كثير من المستندات الصادرة عن عواصم عربية ومهما التقط المسؤولون الإسرائيليون صورا مع مسؤولين عرب وقرأوا الأخبار فيها وعليها كما يشاءون فإن الدم العربي في مواجهة الاحتلال لن يكون ماء، وحتى زيارة نتنياهو لسلطنة عُمان فقد سمع فيها كلاما غير الذي ادعاه وقاله، وها هو يهرب من استحقاقات ما سمع بعد أن قال الوزير يوسف بن علوي في القدس كلامًا مختلفًا كرره في رام الله بعد زيارة نتنياهو إلى مسقط. وما زالت عبارة "أن مَن رأى ليس كمن سمع" هو ما يحكم السياسة العمانية الحريصة وهو كذلك من يحكم السياسة السعودية التي لا تريد لنفسها أن تختصر في شهوات اليمين الإسرائيلي أو تتحول إلى ورقة انتخاب في صناديقه.

لن تكون الدماء الفلسطينية هي فاتورة الانتخابات الإسرائيلية حتى وإن مارس الإسرائيليون القتل والهدم والتدمير وإغراق بيت الرئيس أبو مازن بقنابل الدخان المسيلة للدموع وحرمانه من النوم فيه. ولن تكون الإرادة الفلسطينية التي صمدت منذ أول مستوطنة في بتاح تكفا "ملبس" إلى جوار نابلس عام 1882 وإلى اليوم أسيرة هذا الموقف الإسرائيلي الجديد ولم يغير الفلسطينيون موقفهم من القدس منذ ثورة البراق عام 1929 واستشهاد الشهداء الثلاثة ونشيد ”من سجن عكا مرت جنازة” فما زالت مواكب الشهداء لنفس الذي استشهدوا من أجله المكان تمر وتتكرر.

لا تخشوا على الرئيس أبو مازن وشعبه والحركة الوطنية الفلسطينية في المنظمة وعموم الفصائل الفلسطينية من الهزيمة أو التسليم ولكن اخشوا أن تخذلوها أو تسلموها أو توردوها مورد الهلاك.

فالإسرائيليون يراهنون على التطبيع العربي ويراهنون على "الذئب" السعودي أن يأتوا برأسه ويراهنون على أن يفصلوا ما بين الأنظمة التي يراهنون على التعامل معها وما بين شعوبها التي ما زالت تتنفس قضية القدس حتى وإن لم تظهر ردة الفعل المأمولة.

زيارة الرئيس عبّاس للسعودية والتي قد يعقبها زيارات أخرى في المنطقة العربية هي في غاية الأهمية ولن تكون كزيارة عبد القادر الحسيني إلى دمشق عشية النكبة عام 1948، ولا كزيارة الحاج أمين الحسيني إلى بغداد حين ضاقت عليه فلسطين والأرض العربية.

عبّاس يعرف أن قدميه في فلسطين لن يبرحها وقد تعلَّم ذلك من الرئيس عرفات الذي أخرج من فلسطين مغدورًا مقتولاً ليعود إليها شهيدًا يزرع بذرة الصمود والبقاء والدولة.

لا تُهمُّ الرئيس عبّاس الشعارات الطنّانة والأمجاد الفارغة، إنّه يريد شيئًا لشعبه وقد زرع بذرة الدولة التي تحرَّكت وبدأت في مدِّ جذورها، وها هو يجسّدها حقيقة في صوت (138) دولة عبر العالم والعدد مرشّح للزيادة ومرشّح أن يفرض إرادته..

تستطيع المملكة العربية السعودية أن تطلب من الرئيس أبو مازن أن يؤكِّد ثوابته وأن يجسِّدها، وأن تمكّنه أن يسعى بها في كل الأرض، وتستطيع أن تحثّه أن يسير بها إلى الأمام وتستطيع أن تساعده في مهمة جمع شمل العمل السياسي والفصائلي لتشكيل الحكومة الفلسطينية حتى وإن بدأ النفوذ السعودي في هذا المجال محدودًا بعد أن فارقت "حماس" مواقع حلفائها حين لبست عباءة الإخوان المسلمين ودعت بدعواهم والذين طعنوا مصر والسعودية وأقطارا أخرى واتخذوا من "حماس" درعًا لحماية شعاراتهم، وجعلوا مادة هذا الشعار حصار شعب غزّة الصابر..

المملكة العربية السعودية الآن رغم انشغالها مطلوب منها الكثير لإسناد الجدار الفلسطيني الذي يحمي الأمن العربي، ومطلوب منها الالتفاتة للقدس حتى وإن جاء الضغط عليها من الشرق حتى لا تتمكّن من فعل ذلك.

ومطلوب منها أن تتنبه إلى الثغور حتى لا يؤتى من قبلها وخاصة ثغر الأردن المرابط الصامد الذي ما زال أصحاب صفقة العصر يضعونه على الصليب ويعذّبونه في اقتصاده واجتماعه.

نريد الصحوة السعودية الآن أن تكون باتجاه فلسطين والأردن، وأن تُعبِّر عن نفسها في جوانب سياسية ومالية، وأن ترى أنَّ الرهان كان وما زال على هذه الجغرافيا فمن يشكم (إسرائيل) ويردها عن استمرار عدوانها يشكم إيران، ومَن يمكِّن (إسرائيل) من عدوانها يمكِّن إيران فقد "أُكلت يوم أُكل أخوك".. ولعبة الثيران يجب أن لا تتكرَّر بإدخال ذئب التطبيع العربي في فراش ليلى الفلسطينية حتى وإن بدأ يرطن بالقرآن أو يلبس دشداشة أو يقرأ المعوذتين!!

الرئيس أبو مازن في السعودية ليُذكر وهو فيها لتدعمه وتعاضده وتوقف حملات التشكيك عن نفسها وعنه وهي قادرة بالزيارة وبموقف سياسي واضح أن تضع كثيرًا من النقاط التي أرادت (إسرائيل) أن تذروها على الحروف الفلسطينية والعربية لتظل مواقفها في دعم القضية الفلسطينية مقروءة دون احتمالات أو مواقف معترضة أو ممنوعة من الإعراب.

لقد عادت مصر تتفهم القضية الفلسطينية كما تراها قيادتها الشرعية قيادة أبو مازن وتعلَّمت منذ مقتل السادات أن لا تضع الأفعى "الإسلام السياسي" في "العب" (أي صدر الثوب) لأنَّها تلدغ. وها هي مصر التي ألقت بثقلها إلى جانب فلسطين منذ غزو الهكسوس قبل الميلاد إلى اليوم شاهدة تمسّك بتاريخها ولا تفرّط بتضحيات أبنائها العظيمة.. وها هي المملكة العربية السعودية تُعيد إلى الأذهان في زمن البورصات أن ثمن القدس لا يُقدّر بمال.. وتستقبل الرئيس لتخفِّف عليه وتشدَّ من عزيمته فقد جاءها يطلب الموقف السياسي الصلب ليس عن قلة عزيمة أو رجال وإنَّما لأنَّ روح القدس ترفرف فوق مكة وتقول :"الهامة اسقوني"!.