ترددتُ كثيرًا في كتابة هذا المقال كي لا أبدو مدافعًا أو محابيًا لأي شكل أو مظهر من مظاهر الفساد. إنَّ ما دفعني لكتابة هذا المقال هو تلك المبالغة المقصودة والممنهجة والمموَّلة خارجيًّا لتبدو معها السلطة الوطنية الفلسطينية فاسدة، وتحويل ذلك إلى تفكير وموقف نمطي في أوساط الشعب الفلسطيني، وحتى في الأوساط العربية والعالمية. وأنا هنا لا أريد شرح الهدف من وراء كل ذلك، كما لا أريد التورّط في الدفاع عما هو خطأ وفساد إن كان موجودًا فعلًا، وعلينا أن نكون حازمين في التصدي له في حال وُجِد.
لكن ومع شِدّة الحملة في الآونة الأخيرة ووقعها المنظَّم والممنهج تساءلتُ: هل يمكن لسلطة فاسدة أن ترفض استلام أموال الضرائب (المقاصة) من حكومة نتنياهو لأنَّها اقتطعت جزءًا منها هي مخصصات أُسَر الشهداء والأسرى وأن تبقى هذه السلطة متمسّكة برأيها وموقفها رغم كل الوساطات وطرح بدائل، وأن ترفض الابتزاز الإسرائيلي في هذا المجال؟ وتساءلت لو كانت هذه السلطة فاسدة، هل كان بمقدورها أن تقول (لا) لترامب وصفقته، وأن تقطع علاقاتها مع هذه الإدارة، وترفض الابتزاز بالمساعدات وترفض كل رسائل العروض السخية مقابل المشاركة بورشة كوشنير في المنامة؟
إنَّ هذه "السلطة الفاسدة" صفعت ترامب وإدارته الصهيونية ولم ترضخ للتهديدات والضغوط، هل بإمكان فاسد أن يأخذ كلَّ هذه المواقف الوطنية الصلبة، والتي تبدو للبعض عنيدة؟ إنَّ مجرد المراسلة أو اللقاء العابر مع أركان إدارة ترامب أمر ممنوع لكي لا تستنتج هذه الإدارة أن هناك لينًا أو بابًا مواربًا بخصوص الصفقة.
إنَّ هدف النيل من القيادة الوطنية عبر إظهارها فاسدة بنظر شعبها هو أمر معروف منذ زمن الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي عرفه الشعب كم كان في حياته متواضعًا وزاهدًا في متطلّباته.
إنَّ محاربة الفساد والفاسدين ومظاهر الفساد هي مهمة وطنية علينا أن نتّحد من أجل أن نقلِّص ونحاصر مثل هذه المظاهر، ولكن علينا الحذر من الوقوع بالفخ الذي يُنصَب لنا وأن نستسلم لمقولة لدينا سلطة فاسدة، لأنَّ من يريد أن يكرّس هذا الموقف النمطي هو ذاته من أعلن أنّ القدس عاصمة "للشعب اليهودي"، ويعمل على تصفية قضية اللاجئين تمهيدًا لتصفية مجمل القضية الفلسطينية، هو ذاته الذي صنع الصهيونية وروايتها ومشروعها، ومن أهدافه إضعاف قيادة الشعب الفلسطيني.
وقبل أن اختم بأنَّ هذا الموقف الوطني المشرّف والتاريخي إذا ما أردناه أن يحقّق أهدافه المبتغاة علينا رفده، ودعمه بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وتحصين وتعزيز وحدة الشعب.
لدينا سلطة وطنية وقيادة وطنية، ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة شرعية شجاعة وعلى رأسها الرئيس أبو مازن هي سليل هذا التاريخ النضالي الوطني الطويل منذ ستينيات القرن العشرين، وهي على ثوابتنا وحقوقنا الوطنية، إن ما نريد هو تقديم الدعم وأن نلتفَّ في هذه اللحظة المصيرية حول مشروعنا الوطني وقيادتنا الشرعية الشجاعة، لأنَّنا بالوحدة نكون .. وبالوحدة ننتصر.