لدى المبدع سواء كان كاتبًا وخاصة أديبًا-أو كاتبًا لمحاضرته ليكون متحدّثًا أو خطيبًا كما نقيس عليه نحن- كما يورد د.محمد بلوحي في مقاله[1]، أسلوب خاص به، وإن رصد أساليب الكُتّاب وتفردهم واختلافهم، الواحد عن الآخر، يتم من خلال المقولات الثلاث: الاختيار ـ التركيب ـ الانزياح.
 ما يمكننا نحن كمتحدثين أو خطباء أو مدرّبين حين معرفتها من السير على خطاها بمعنى أن نتعلم كيفية انتزاع أسلوبنا الخاص في الحديث حتى لو كانت المحاضرة/الخطاب علمية أو ثقافية أو تاريخية أو تنظيمية أو سياسية، ونعود لمقتبسات من المادة كما يوردها بلوحي.‏
1. الاختيار:‏
يعمد الكاتب إلى اللغة بوصفها خزّانًا جماعيًّا رحبًا، منه ينتقي مفرداتٍ، يتخيّرها كي يصبّ فيها ما تجيش به نفسه من مشاعر وأحاسيس وانطباعات. إنَّ عملية الاختيار يحكمها جانبان: شعور فردي وجداني تمليه الدفقة الشعورية للإبداع، وآخر خارجي اجتماعي لغوي فني تفرضه القواعد والأعراف، والطقوس المتداولة عند الكُتّاب والمتلقين.
ومنه نجد أنَّ ((الوضوح يتحقّق باختيار الكلمات المعينة غير المشتركة بين معانٍ، والتي تدل على الفكرة كاملة، والاستعانة بالعناصر الشارحة، أو المقيّدة، أو المخيلة، واستعمال الكلمات المتقابلة المتضادة إذا كان ذلك يخدم المعنى والفكرة، والبعد عن الغريب الوحشي، والعمد إلى لغة الناس وما يستطيعون إدراكه))، بسهولة وبصورة واضحة لا تشوبها شائبة.‏
2. التركيب:‏
إنَّ ظاهرة التركيب التي لها علاقة تامّة بالأسلوب تتحدد ضمن الأداء، من عدّة منطلقاتٍ ذاتيةٍ خاصةٍ بالكاتب ومزاجه النفسي، وثقافته المتميزة، والموضوع المتناول، وهي التي تفرض عليه لا محالة توظيف مفردات وتراكيب خاصة به، انطلاقًا مما سلف ذكره، وهذا لن يكون ذا فائدة تواصلية لغوية فنية جمالية، مالم يبقَ في إطار العصر وخصائصه الثقافية والفكرية واللغوية.‏
3. الانزياح:‏
الانزياح هو قدرة المبدع على انتهاك واختراق المتناول المألوف حيث ((أنه من غير المجدي حصر الكلام في تكرار جمل جاهزة، كل واحد يستعمل اللغة لأجل التعبير عن فكرة خاصة في لحظة معينة، يستلزم ذلك حرية الكلام)) واستقلالية الخوض فيه وبه بارتياح، في رِحاب لغة فنية أدبية تجعل الجمالية والتأثير غايتَيْها.‏
إنَّ جمالية الانزياح عندما تخلق اللغة الإبداعية هوامش رحبة، على حساب اللغة المعجمية وانطلاقًا منها، ففيها يتأتى للقارئ الإقبال على العمل الفني، وتذوقه ومدارسته ومحاورته، بشغف ونهمٍ كبيرين، إلى درجة الاستمتاع والإثارة والاقتناع به فنيًا وجماليًا.‏
بين كاسترو وتشرشل
اشتهر كاسترو بخطبه الطويلة إلى درجة الملل عند البعض لاستمرارها لساعات، ولكنه بالمقابل كان قادرا على الإيجاز حيث وجب، فينتقل من 7 ساعات إلى 4 دقائق ويضع في الدقائق الأربعة خلاصة لم يصلها غيره، وهي قدرة نعبّر عنها بأن القدرة على الإيجاز هي بذات امتلاك القدرة على الإسهاب، لذا نقول تحدث بإيجاز غير مُخِلّ وبإسهاب غير مُمِل.
فوفقا  لموقع منظمة الأمم المتحدة على الشابكة يشير إلى أن فيدل كاسترو هو صاحب أطول خطاب تم إلقائه من قبل أي زعيم في أروقتها. وقد دام خطابه الذى ألقاه في 26 سبتمبر 1960، في إطار أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأربع ساعات و29 دقيقة.
بينما كان واحدا من أطول خطاباته المسجلة للشعب الكوبي في 24 فبراير 1998، والذى ألقاه عقب إعادة انتخابه رئيسًا لفترة رئاسية جديدة، واستمر هذا الخطاب سبع ساعات ونصف.
وقف منظمو مؤتمر الأرض في البرازيل على أعصابهم فأحد الحضور الكبار كان "كاسترو" الشهير بخطاباته الطويلة، والمطلوب من كل رئيس أو رئيس وزراء الحديث لدقائق خمس فقط، وهذا ما أعلموه للرئيس الكوبي. فلو أطال في حديثه عن الوقت المقرر فيفسد البرنامج ويتحول لأزمة مع رؤساء دول أخرى، إلا أنّ كاسترو القادر على الإسهاب والقادر على الإيجاز فاجأ الجميع بأنه تحدث أقل من الوقت المقرر بدقيقة واحدة، بل وأدخل فكرة جديدة إذ مزج بين دور الفقر والبيئة.
ودعونا نقرأ بالمقابل أقصر خطبة في التاريخ الحديث والتي كان للغة الجسد المقام الأول فيها مع نبرة الصوت ومع كلمة واحدة: [2] تشرشل في صغره وتحديدًا في الصف الثامن، عانى كثيرًا في تعلم اللغة الإنجليزية، إلى درجة أنه فشل في تخطي الصف الثامن لمدة ثلاث سنوات بسبب اللغة الإنجليزية! بعد ذلك بسنوات عديدة أصبح خطيبًا مفوهًا، وكاتبًا مبدعًا، حيث حصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1953 للعديد مِنْ مؤلفاته في التأريخ الإنجليزي والعالمي.
تبدأ قصتنا حين دعت جامعة أكسفورد العريقة السيد تشرشل الذي قاد بلاده نحو النصر في الحرب العالمية (هي الأوربية) الثانية لإلقاء محاضرة لأساتذة وطلاب الجامعة في مناسبة كانت الجامعة تحتفل بها. فصعد تشرشل المسرح بكل ثقة وهدوء وخطوات ثابتة، ومعه سيجاره وعصاته وقبعته، حيث كان يحمل هذه الأشياء الثلاثة معه أينما ذهب. وقف تشرشل أمام المنصة باحترام، يرد التحية الكبيرة والتصفيق الحاد الذي قابله به الجمهور الذي كان حاضرًا، بل إنهم وقفوا أثناء دخول تشرشل إلى المسرح. وبكل هدوء، نظر تشرشل إلى الحضور، ثُمَّ أسند عصاه إلى المنصة، ووضع قبعته بجانبه، ثم اتجه إلى الجمهور الذي كان يتشوق لسماع محاضرة من هذا الخطيب المفوّه، فما كان منه إلا أن صرخ بكل قوة ووضوح: لا تستسلموا أبدًا أبدًا أبدًا، وسكت.
غشي القاعة صمت مطبق، ومرت ثوان طويلة والكل صامت باستغراب! ثم وقف تشرشل على أصابع قدمه، وصرخ مرة أخرى: لا تستسلموا أبدًا أبدًا أبدًا، ثم وضع قبعته على رأسه، وأخذ عصاه، وسيجارته، ثم غادر القاعة. كانت هذه خطبته.. مجرد كلمتين: لا تستسلموا أبدًا.
ويعد هذا الخطاب من أقصر الخطب وأقواها وكان سبب قوته ظروف الحرب التي تهدد وجود انجلترا وما قيل فيه دون كلام بنبرة الصوت وتعابير الوجه وطقوس تشرشل التي كثيرا ما تكون أبلغ من الكلام.