اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لدولة الكيان بمثابة تفجير لعملية السَّلام بالمجمل ...ونسف عربة السَّلام، ونسف فكرة التسوية، ونسف الطريق المؤدية لأي حلول مستقبلية، بل وتأكيد نظرية العداء الأمريكي الإسرائيلي المشترك للأمة العربية والإسلامية، ليس هذا فقط وإنما اشتعال المنطقة بأسرها وتحولها لفوضى عارمة قد تحرق فيها كل الطرقات والمسالك المؤدية لأي استقرار أو أمل بإمكانية التوصل إلى سلام يضمن استقرار المنطقة عقود قادمة، وبالطبع ستصبح كل المصالح الأمريكية في دول الإقليم محاصرة بالنار بل إن العالم كله سيصبح عرضة لأعمال انتقامية لأي مصالح أمريكية وإسرائيلية، لأنَّ ما فعلة ترامب ليس بالهين ولا بالأمر العادي فلم يستطع كل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية منذ  تولي جون كيندي 1961 إدارة البيت الأبيض امتداداً بإدارة جيمي كارتر ورونالد ريغن وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وبوش الابن وصولاً  لإدارة  أوباما 2009، ولم يستطيع بيل كلينون تنفيذ قرار الكونغرس  بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في العام 1995،  جاء ترامب وجريمته المشينة واتخذ قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل في خطوة غير مبررة بل متهورة ومجنونه وغير محسوبة، والغريب أنه ما زال يتحدث عن حل الدولتين والهدوء والاعتدال في المنطقة، وأمريكا نفسها تمارس الانحياز والتعصب والتميز والتطرف الصارخ المدمر لأي آفاق لتحقيق السَّلام العادل والمنشود.

المنطقة تشتعل وطريقة اشتعالها جاءت على يد ترامب الذي يدعي أنه يسعي لتحقيق الأمن والاستقرار بالمنطقة على اعتقاد أنه بخطوته هذه سيغير من طبيعة الصراع ويحسم الأمور لصالح الحل الذي يريده دون أن يدري أنَّ الفلسطينيين والعرب شعوباً وحتى الحكومات، لن يتجرأ أحد منهم على الاستمرار في الصمت حيال ما قام به ترامب، وقد لا يعرف ترامب أن المصالح الأمريكية ستتضرر كثيراً، وشركاتهم ستحرق والأكثر من هذا فان النار التي لعب بها ترامب ستصل البيت الأبيض، كيف! قد يسأل أحد ما، لكني أقول أن أمريكا تعتقد أنها ستربح جراء هذه الخطوة لكنها ستخسر الكثير، وستعود الخسارة على علاقات واشنطن بالعالم كله، وليس العرب والمسلمين، وقد تلجئ الدول الإسلامية والعربية على قطع علاقاتها بأمريكا وعندها سيتحرك المتربصون لترامب من المعارضين لسياساته الداخلية والخارجية، وسوف يتهموه بأنه عرض البلاد للخطر وأودي بعلاقاتها مع العالم إلى الهاوية وضرب الاقتصاد في مقتل جراء قرار متهور لن تجني منه الولايات المتحدة سوى المزيد من الكراهية والعداء، أمَّا على المستوى القانوني فان الولايات المتحدة ستتهم رسمياً بانتهاك القانون الدولي والتدخل غير العادل في الصراع وشؤون الدول الأخرى، والتسبب في إشعال المنطقة وتهديد الأمن والاستقرار بدلاً من العمل على تجسيده من خلال السَّلام العادل، فلا يحق لواشنطن مهما بلغت هيمنتها السياسية على دول العالم والقرار الدولي ومهما بلغت قوتها العسكرية أن تقرر عاصمة دولة أخرى وتقرر مصير أراض محتلة اعترف بها القانون الدولي، وعرفها المجتمع الدولي وحمتها اتفاقيات جنيف الأربع من العبث وتغير الجغرافيا والطبيعة البشرية.

لعل ترامب يرتكب اليوم جريمة أخرى بالإضافة إلى جريمة بريطانيا التي تمثلت بوعد بلفور المجرم والذي كان سبباً حتى الآن في كل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل وعصاباتها وما زالت ترتكب باسم هذا الوعد، فاليوم أمريكا ترتكب جريمة أخرى ليس أقل جرماً من جريمة بريطانيا ولن تكون أقل تعزيزاً لكل جرائم الاحتلال الإسرائيلي المتوقعة لممارسة مزيداً من سياسيات التطهير العرقي بحق الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين، ولعلنا أصبحنا بهذا القرار المتهور والمغامرة غير المحسوبة أمام سيناريو مخيف قد تقدم عليه دولة الاحتلال من ارتكاب عملية تهجير قصري أخرى لكل الفلسطينيين في مدينة القدس وتغير جغرافية محيط المدينة المقدسة من قرى وبلدات عربية تتمثل في وجود أكثر من 140 ألف فلسطيني ضمن حدود هذه المدينة الفلسطينية التاريخية المسلمة وبالتالي التخلص منهم وحرمانهم من حق الإقامة في قدسهم، كما وتتمثل في تصاعد وتيرة الاستيطان الإسرائيلي في كل أراضي الضفة الغربية وغور الأردن باعتبار أن إسرائيل القوة الاحتلالية أعطت الضوء الأخضر لتمارس التصفية الحقيقية لإمكانية نشوء كيان فلسطيني  مستقل جنباً إلى جنب وبالمساواة مع كيان إسرائيل، ولعل إسرائيل اليوم ستتمادى في مخططاتها  الاستعمارية ليس لأراضي العام 1967 باعتبار إن استعمار هذه الأراضي وتمزيقها سيحول دون أي إمكانية لحل قائم على أساس الدولتين والحقوق المتساوية والشرائع الدولية، بل أيضاً ستتمادى إسرائيل في رسم الخارطة الجيوسياسية الجديدة في المنطقة وستفرض قواعد جديدة للعبة في سوريا وخاصة إنها الآن تلمح لمنطقة عازلة في الجولان السوري وتسعى أيضاً لتغير الخارطة السياسية لشبه جزيرة سيناء باعتبار أنَّ الحل الأمثل والمقبول للصراع يتمثل في مركز الكيان الفلسطيني  الجديد في عمق سيناء.

اليوم كتب ترامب شهادة وفاة العملية السلمية رسمياً بهذا العمل الأخرق والمجنون الذي سيحول دون أي مفاوضات مستقبلية بين الإسرائيليين والفلسطينيين لبحث قضايا الحل، لأن الفلسطينيين لن يجلسوا تحت أي ضغط على طاولة مفاوضات وقدسهم سلبت مستقبلها الدولة الراعية للمفاوضات بقرار مسبق واتضح الانحياز الكبير لصالح قوة الاحتلال ومشاريعها، وبالتالي فان العالم اليوم أمام اختبار حقيقي لإنقاذ المسيرة السلمية بالتعبير عن موقفه بوضوح لرفض كل المشاريع الأميركية العنصرية على أساس الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان واتخاذ كافة الإجراءات لإبطال هذا القرار الغاشم واستعادة الأمن والاستقرار الذي هددته واشنطن بقرارها المجنون، وعلى المجتمع الدولي المبادرة لعقد مؤتمر دولي كبير ومستمر لإنقاذ الشرعية الدولية وتطبيق قراراتها من خلال سلام قابل للحياة وبالتالي يتخذ من الإجراءات الضاغطة على دولة الكيان لتمتثل لإرادة المجتمع الدولي وتستجيب لمتطلبات تحقيق السلام العادل وإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967 بما فيها القدس العاصمة.