أكثر من 2 مليون إنسان يقُطن في قطاع غزة جُلهم من الشباب وفي مُقتبل العمر، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فبعد الانقسام البغيض عام 2007م بين حركتي فتح وحماس وتولي الأخيرة سدة الحكم في غزة، بدا الناس يُعانون من حصار خانق منذ ما يزيد عن عشر سنوات، اشتد مؤخراً بصورة غير مسبوقة من قطع متواصل للكهرباء يصل يومياً لأكثر من 15 ساعة أحيانًا وأحيانًا أخُرى عشرين ساعة، ناهيك عن البطالة وصلت فقط بين الخريجين الجامعيين لأكثر من 170 ألف خريج جامعي عاطل عن العمل، وأمراض، وفقر مدقع زاد عن نسبة 80%.

ولقد صرحت صحيفة "التايمز الأمريكية" مؤخراً أن غزة مقبلة على خيار حرب وعدوان جديد، يأتي هذا التصريح من الصحيفة في ظل إجراء الاحتلال الاسرائيلي تمارين عسكرية مستمرة تُحاكي العدوان على غزة واحتلالها الخ، ومما أعتقد أن الاحتلال وإن كان طبيعته عدوانياً ويشعل الحروب دوماً، لكنه حالياً لا يرغب بالبدء بحرب وعدوان جديد على غزة، ولكن الاحتلال يتمنى أن يهاجر كل سكان غزة فيتخلصون منهم لأنهم شوكة في حلق الاحتلال ومما يتمُنونهُ أن يبتلع البحر غزة كما قال رئيس وزراء الراحل اسحاق رابين: ليتني أصحو من نومي فأجد البحر قد ابتلع غزة"، وبالأمس قال عضو الكنيست الصهيوني "أفي دختر": ليت البحر يبتلع سكان غزة".

وفي ثمانينيات القرن الماضي كانت أوروبا وأمريكا وكندا تفتح المجال للفلسطينيين بشكل عام ولأهل غزة لمن يريد الهجرة، بل تغريهم بالمال والوظائف الخ، ولكن لم يكن أحد من أهل غزة وساكنيها يلتفت لذلك ولا يعيره اهتماماٍ على العكس اليوم تماماً.

ومن الواضح أن غزة تعتبر أزمة كبيرة ليست فقط لسكانها المحاصرين المقهورين من ظلم ذوي القربى ممن يحكُمها، حيث تنكر لهم الصديق والعدو، القريب والبعيد، فغزة تقلق المنطقة كلها سواء منطقة الشرق الأوسط، أو دول الجوار، أو حتى الدول الأوربية. حيثُ انهم يعلمون أن الانفجار الديمغرافي لسكان غزة لو فتح معبر رفح، و صارت هجرة كبيرة بسبب استمرار الحصار، وقام الكثير من الشباب والسكان بركوب البحر اتجاه أوروبا، مما سيشكل عبئ على تلك الدول.

إن المشروع الوطني برُمتهِ اليوم أمام المتغيرات الاقليمية والدولية في حالة ضعف شديد، وسكان غزة في وضع لا يحسدون عليه فهم بين المطرقة والسنديان، أهلكتُهم نكبة الانقسام، و المناكفات السياسية بين الفرقاء، ومما يطرح اليوم بعد اتفاق حماس- دحلان، الذي جاء كمنقض ومخُّلص لحماس من أزمات قطاع غزة المستفحلة والموحلة، فهل تحصل كونفدرالية مستقبلية بين غزة مع مصر بموافقة حماس!، مع انشاء محطة كهرباء في رفح المصرية وفتح المعبر، وإنشاء ميناء ومطار، للخروج من المأزق الخانق على رقاب الجميع في غزة!؛ هو سيناريو محتمل، ولكن صعب التطبيق بدون موافقة السلطة الوطنية، وأعتقد أن حماس لا تؤمن جانب دحلان، والأخير لا يأمن أيضاً جانبها، بل ما بينهما عناق مصالح متبادلة، وحماس تحب مَالهُ والدولارات التي سيأتي بهِا مع فتح المعبر وترغب من تحسين علاقتها مع مصر والامارات والسعودية من خلالهِ، وعلى الرغم من كل ما سبق حماس لن تتنازل عن حكم غزة وهي صاحبة فكر إخواني شبه مستحيل بل صعب جداً أن تقبل بالشراكة والتعددية، وهي لا زالت تفرض ضرائب باهظة على كل البضائع التي تدخل لسكان غزة، حتى من يذهب للعلاج يدفع المال وإن كان فقيراً، فمصلحة الحزب وقادة الحزب أو الفصيل هي أهم من حياة 2 مليون إنسان لدى بعضهم.

ولو تكلمت مع كثير منهُم، وحاورتهم في السياسة وخالفتهم الرأي والموقف فوراً تجد الرد جاهز، من التخوين، والتكفير، وأنك غير وطني!، لأنك شككت بحماس، وكيف لك هذا، يقولون لك فوراً حماس هي المقاومة للاحتلال وهي التي تعمل في الاعداد والتجهيز أعدت ألاف الأنفاق والسلاح لمواجهة العدوان للاحتلال الاسرائيلي، وكأنهم لا يقرأون التاريخ أو نسوا أو تناسوا بأن من بّْناَ صور الصين العظيم ولم يبنوا الإنسان في ذلك الوقت من الزمن؛ حيث يعُتبر هذا السور من عجائب الدنيا السبع بعدما بنوه الصينين انهزموا ثلاث مرات، فلما سألوا وبحثوا ونقبوا عن السبب لهزيمتهمُ برغم بناؤهم أعظم سور في العالم؛ وجدوا أنهم اهتموا ببناء الحجر ولم يبنوا البشر، فكان العدو يأتيهم من باب السور، لأن المحتل الأجنبي وصل للإنسان الصيني ممن يقومون بحراسة بوابة السور من الحُراس فقدموا لهم الرشوة، فرشوهم وجعلوهم عملاء للاحتلال فبذلك انتصروا ودخلوا من باب السور.

وليس بعيداً حالنا في غزة اليوم عن هذا الأمر، فالدنيا يلزمها العمل، والأخرة يتطلب لها العمل، فأن تقول لي مقاومة وإعداد وتجهيز الأنفاق والسلاح ضد الاحتلال فهذا أمر جميل لا أحد يقول عنه إلا تعظيم سلام عسكري، ولكنكم بالمقابل يا قادة حماس قتلُتم الانسان الغزي وقهرتُموه، وجعلتُموه يكره الوطن والمقاومة، لأنكم لم تربطوا حجرين أو حجراً على بطونكم والشعب ربط جبل من الأحجار حتى غاب في باطن الأرض من شدة الفاقة والحاجة، وجعلتم جيش من العاطلين عن العمل ممن لا ينتمون لحزبُكم في غزة، وتبّعُهم جيش من المرضى بالأمراض الخبيثة، والأمراض النفسية؛ وجيش ممن يرغبون بالهجرة من غزة، ومئات من يفكرون بالانتحار!؛ وعشرات من الشباب قد انتحروا، وحالات طلاق حدث ولا حرج، وشباب وفتيات لا يستطيعوا ولا يقدروا على الزواج بسبب الفقر، مع انتشاء وتفشي الزنا والفواحش، وتفشي الظلم؛ فأين هي الجنة الإدارية الوزارية لحماس والتي شكلتها حماس لحل مشاكل الناس في غزة، فأغرقت غزة في البحر أكثر مما هم غارقون في الهم!، ولو ناقشتهم سيقولون الرئيس هو المسؤول!، لا تقولوا لنا الرئيس هو من يتحمل ذلك لأنكم بصراحة أنتم من تحكموننا في غزة وأنتم أصلاً لا تعترفون بالرئيس ولا بالحكومة في رام الله، وقد مد الرئيس أبو مازن يده للمصالحة مراراً وتكراراً لكم ولكنكم وضعتم "دان من طين ودان من عجين" ولا مستجيب منكمُ له للمصالحة، وحتى بعد خطابه بعد انتفاضة أهل القدس الأبطال ضد وضع الاحتلال للبوابات الالكترونية لم تستجيبوا له، بل وضعتم لافتة يافطة كبيرة جداً في مفترق ساحة السرايا بغزة تصف الرئيس بأقدح كلام فاحش، لا ينبغي أن يخرج من مسلم كلمة نابية كتلك التي كتبوها وعلقوها !. وفي غزة تجد من أصبح سلطاناً وأميراً ويمتلك القوة و المال، ويقول لك كلاماً في الدين جميل، وقال الله وقال الرسول!!، ويتكلم لك عن عدل الفاروق عمر بن الخطار "رضي الله عنه"، وهو يكون ظالم بل أمير الظالمين، ومنهم من أصبح ككسرى، وقيصر، وقارون، وفرعون، في البطش الغطرسة، والناس بغزة لا يجدون بالكاد ما يسد رمقهم، وقد انتشرت ظاهرة الأطفال المتسولين الذين حرموا في حقهم في الطفولة ويرتمون على ارصفة الطرقات يمدون أيدهم للناس ونساء تراهم مجرد خُروجك من الصلاة من مساجد غزة يفترشون بوابة المسجد للتوسل لمن يعطيهم المال، لفقرهم ولسوء ما وصل لهم حالهم، وأما عن المخدرات وحبوب الترومال وشرب الشباب لها فحدث ولا حرج ، والوضع في انحدار نحو الهاوية ونحو إما الانفجار بوجه الجميع، أو الاشتباك مع العدو، أو إنهاء الحصار خيارات ثلاثة لا رابع لهم، فالناس في غزة أمواتٌ وبعضهُم أحياء.

ونحن في غزة على أبواب العام الدراسي الجديد، الجامعات والمدراس على الأبواب، وكثير من الناس لا يستطيعون الأن أن يرسلوا أبنائهم للجامعات والمدارس بسبب الفقر وعدم القدرة على تعليمهم، وبذلك يفشو الجهل، ناهيك عن حالة اغتصاب مؤخراً حصلت في غزة، وهي ظاهرة غريبة على شعب في غزة لكنها حصلت قبل أيام، كل هذا ومن يحكم إمارة غزة كأنهم يسكُنون كوكب المشتري أو الزهرة، أو المريخ، كأن كل ما يهمهم أنفسهم وحزبهم ويصمون أذانهم وأعينهم لكل ما سبق استخفافاً بالناس الذين سكتوا خوفاً من القمع أو القتل أو الاغتيال، في النهاية في اعتقادي أن غزة عصية على الانكسار، وأهلها سيفاجئون القريب والبعيد، بل العالم بما هو قادم وسيفاجئون المحللين والكتاب، وأجهزة الأمن والمخابرات، والداخلي والخارجي، كما فاجئوا العالم في انتفاضتهم بالحجارة ضد المحتلين اليهود فيما عرف في انتفاضة الحجارة في شهر سبتمبر عام 1987م، فهم الأن وصلوا لحالة من الانصهار والذوبان والموت السريري وعلى أجهزة الانعاش، التي ستؤدي بهم إلى الموت، لأنهم كطائر الفينق يخرجون من تحت الرماد أكثر قوة، فُهم أقرب إلى الافاقة والانتعاش والانتفاض فإما حياةُ تسر الصديق، ومما ممات يغيظ العدا، فبعد إحدى عشر عامًا بات خيار الناس هو الأقرب للتطبيق كما كان أهل القدس المرابطين الأبطال ممن أذهلوا العالم بصمودهم الأسطوري وصمودهم بدماء الخمسة عشر قمراً منهم ثمانية مُحمدات الذين ارتقوا شهداء إلى العلياء وأرجعوا بوصلة فلسطين والقدس الشريف على خارطة العالم من جديد مما اضطر الاحتلال صاغراً لرفع البوابات الالكترونية والكاميرات التي وضعها في المسجد الأقصى المبارك، فغزة على موعد جديد مع الفجر وتبدد ظلام الليل الحالك، فهم يحاربون الموت ، هم يشدوا، والموت يشد، فيحيوا وسيموت الموت، فبات الانفجار قاب قوسين أو أدنى، أو رفع الحصار، والأيام القادمة اتية بالكثير من الأحداث فغزة لن تنكسر وستنتصر.