في شهر مايو الماضي، حين أعلنت "حماس" عن وثيقتها، وكان خالد مشعل رئيس المكتب السياسي آنذاك، تجدَّد الأمل بأنَّ "حماس" استطاعت أخيرًا أن تبدأ الخطوة الأولى في طريق المراجعات الكبيرة، وأنَّها يمكن أن تتأهّل لتكون جزءًا عضويًّا من النظام السياسي الفلسطيني، وتنحاز بالتالي إلى أولوياته، ومن أهمّها الوحدة الوطنية بالنظام الجبهوي الذي صمَّمته ومارسته منظمة التحرير الفلسطينية منذ البدايات، خاصةً أنَّ "حماس" قبلت في وثيقتها مشروع الإجماع الوطني، مشروع منظمة التحرير، وهو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على الأرض الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران والقدس الشرقية عاصمةً لها.

ولكن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، لأنَّ جوقات الانقسام المتشبثين به تعالت صرخاتهم، وأصبحت كلُّ رسائل "حماس" محقونةً بالسلبيات، وكأنَّ الإذن لم يأتِها من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي تتبنّى أولوياته، بل إنَّ "حماس" بدأت تمارس انزلاقات خطيرة تشير بوضوح إلى أنَّها تريد أن تستثمر رفض إسرائيل لمشروع الدولة الفلسطينية، وأنَّ "حماس" قابلة بالتعويض عن ذلك ببدائل هي أقرب إلى الأوهام، مثل قبول فكرة إمارة في غزة. وبدأت الانزلاقات تصل إلى حد تعطيل عمل حكومة الوفاق الوطني، والاستمرار في الممارسة تحت حكومة ظل فاقدة للشرعية، بل تشكيل لجنة إدارية لحكم قطاع غزة، والانفراد به رغم ثقل وجسامة المشكلات المتراكمة، وتعمق الانزلاق نحو مزيد من الخطايا عندما قبلت أن تمد اليد علنًا للمنفلتين والخارجين عن الشرعية الوطنية، والتستُّر على ذلك بمبررات الاحتياجات الطارئة والإنسانية أو القبول بأدوار أمنية كانت مطالبة بها منذ سنوات.

"حماس" لا تجد ما تقوله لتبرير هذه الاحتياجات نحو المجهول والمغامرات العبثية سوى أنَّ هذا يعفيها من التقدُّم باتجاه الوحدة الوطنية الحقيقية، وإلغاء الأخطاء المتراكمة التي خلفها الانقسام منذ عشر سنوات على خطيئته، وهذا مصير كل مَن يفقد صِلته بالمصالح العُليا لشعبه، فيصبح رهينةً في يد الأحداث تحركه كيف شاءت، حتى لو وجد نفسه في النقيض الكامل مع ادّعاءاته السابقة. وبالطبع فإنَّ الساحة العربية هذه الأيام المسكونة بوجع السكوت الطويل عن المآسي، لا تُنتِج إلّا هذا الذي نراه من القفزات في الهواء، والمزيد من الوضوح لدينامية الأحداث التي لسنا نحن صانعيها في الأساس، بل إن "حماس" لا تجد ما تبرِّر به أفعالها سوى إعلان نصف الحقائق، وإخفاء نصفها الآخر، فهل وصل الأمر بحماس إلى هذا المستوى.. هروب من الخطأ إلى الخطيئة، والتماهي مع الهدف الإسرائيلي لضرب مشروع الاستقلال الفلسطيني؟