"منشان الله عمو خبرني هادا حقيقي ولا حلم".. قالتها طفلة فلسطينية للمسعف الممرض وهو يمسح دماءها النازفة إثر إنقاذها من تحت أنقاض منزل عائلتها، فجيش منظومة الاحتلال الصهيوني العنصري الإرهابي أفقدها القدرة على التمييز بين الحقائق والوقائع المادية، وبين الحلم (المنام) والخيال، وكأنها بسؤالها صاحب الرداء الأبيض الذي يعتبرونه في الثقافة الانسانية من ملائكة الرحمة، كأنها تسأل اصحاب العقول والقلوب في العالم، هل حقًا كنت هدفًا لقنابل جيش يدعي الالتزام بأخلاقيات وقوانين الحروب؟! هل حقًا يحدث هذا لي، بعد أن صار بيتنا قبرًا لعائلتي في زمن الشرائع والحقوق الانسانية والقوانين الدولية؟! لماذا الطيار الذي ألقى قنبلته المدمرة الخارقة الحارقة على دارنا قد خطفني من عالم المنام إلى حافة لحظة من الحقيقة، لا أرى فيها إلا الجحيم المحكي في الأساطير، أليس لهذا الطيار قلب، أليس له أبناء صغار مثلي؟! أم تراه عقيمًا قد خلع إنسانيته عند بوابة مخزن قنابل وصواريخ طائرته؟ بكت، ثم بكت، حتى جفت دموع كل من شاهدها وسمع تأوهاتها وشعر بآلامها حتى لو كان وراء المحيطات.

"منشان الله عمو قول لي إنه أمي بعدها عايشة".. نطقها طفل فلسطيني صغير كان يرتجف هلعًا وخوفًا، لا يتجاوز سنه عدد أصابع اليد الواحدة، اختلطت دماؤه النازفة مع دخان قنبلة وغبار تراب من أرض بيته الطاهر، أخذ إرهابي طائر على متن وحش فولاذي، يسمى في العلوم العسكرية (طيار حربي) روح أغلى ما لديه، وأعظم دفء، واسمى حب، لكنه لا يريد تصديق ما رأت عيناه، فهو ما زال يعتقد أنه في يوم القيامة سيكون مع أمه حيًا في الجنة، لا فرق عنده بين الجنة الدنيا أو الجنة في الآخرة، فهو يعتقد أن أمه سبيله الوحيد للنجاة في الحياة الدنيوية الأرضية والروحية السماوية، يسأل أحد ملائكة الرحمة (الممرض المسعف) وكأنه يسأل أطفال العالم، هل شعرتم يومًا بأحزان كحزني على فقدان امهاتكم؟! كيف عشتم من فقدانكم لحضنها للأبد، من سيبقى متيقظًا فوق رأسي، وتلبيني وأنا أئن من جراحي، من سيلبسني صدارة مدرستي، ويرتب لي حقيبة كتبي ودفاتري؟.. أرجوكم ارفعوا أيديكم إلى السماء واطلبوا من الله أن يبقي روحها في جسدها على أرض.

احببتها لأن أمي كانت تخبز لنا على طابون بنته من طينها.. أخبروا الله من فضلكم أنا أحب أمي، لذا أنا أحب الحياة.

"هاي أختنا أصغر وحدة والوحيدة بيناتنا بنت" قالها طفل جريح، أخرجه المسعفون من تحت الأنقاض حيا مع أخيه الأصغر قالها وهو يخبر صحفيًا بلغة دموع حارقة لكل ذي لب، فيما أخوه الأصغر يقبل قدم أخته الوحيدة، كما تقبل أم رضيعتها في سنتها الأولى، يقبلها قبلة الوداع الأخير وكأنه يصر على مداعبتها وهو يعلم يقينا أن أخته ستطير روحها كما العصافير إلى الجنة، يودعانها وكأن الحياة في كنف العائلة المقدسة بعد أن كان حقيقة قد أصبح وهماً، يودعانها ليشهد العالم أن هذا الطفل الفلسطيني الصغير، هذا الفلسطيني الطفل الكبير، ليس متزمتًا، ولا متعصبًا، وأنه متحرر من تعاليم الجاهلية ووأد البنات!

يودعان اختهما ولسان حالهما ينطق بألف ألف سؤال لينقله الصحفي بكل السن شعوب وأمم الدنيا: هل رأيتم؟! أعرفتم الآن من يقتل الأطفال، هل شاهدتم استباحة لدماء الطفولة كما يحدث لنا، ليس لنا ذنب سوى أن والدنا فلسطيني، وولدتنا فلسطينية، وجدنا فلسطيني، وجد جدنا فلسطيني، وكلنا أبًا عن جد فلسطينيون، وكانت جل آمالنا أن نحيا مثل أطفال العالم في وطن تطلع عليه الشمس ونحن سعداء، ونذهب إلى مدارسنا بسلام وألا يوقفنا على الحواجز جنود جيش احتلال، على جباههم ملامح حقد مدججون بالسلاح.. قل لهم أيها الصحفي أننا كنا وأختنا التي ارتقت روحها إلى أعالي السماء، كنا نأمل ونتطلع لأن ننام بأمان ونحلم دائمًا بالربيع لنلاحق الفراشات، لكن الحرب أحرقت الحب في أكبادنا، يوم قتل التلموديون الإرهابيون أختنا الوحيدة.