"الثلاثاء الحمراء في الحركة الوطنية الفلسطينية" واحد من الكتب النادرة التي وثقت ما حدث في هبة البراق، وتحديدًا، حياة ونضالات الشعب الفلسطيني ممثلا في مناضليه الثلاثة: محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير.

أعد الكتاب الباحث المصري عادل مجاهد العشماوي، وصدر في عدة طبعات عن دار المبتدأ للطباعة والنشر-دمشق (سوريا) في 206 صفحات من القطع الصغير، وقدم له الكاتب عبد القادر ياسين.

يحتوي الكتاب على خمسة أجزاء، يتناول الجزء الأول أحداث هبة البراق بشكل تفصيلي، وفي الجزء الثاني يتحدث المؤلف عن المؤامرة البريطانية الصهيونية على عرب فلسطين، إلى جانب ردود الأفعال العربية والعالمية على الأحكام التعسفية الصادرة ضد عشرات العرب في الوقت الذي كان اليهود يفلتون من المشنقة رغم ثبوت جرم القتل عليهم، ويسلط الجزء الثالث الضوء على مناضلي "الثلاثاء الحمراء"، فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم، مع التعرض لتفاصيل حياتهم ومواقفهم أمام أرجوحة الإعدام، وفي الجزء الرابع يبين الكاتب أصداء الإعدام وتضامن الشعب العربي معهم، وفي الجزء الأخير يورد المؤلف ملاحق وصور حول الواقعة، ملحق بأسماء شهداء هبة البراق، وملحق برسائل شخصيات اعتبارية لأمهات الشهداء، وملحق أخير بنماذج من القصائد التي كتبت فيهم.

* فؤاد حجازي [1911-1930]:

فؤاد حسن حجازي، أول الشهداء الثلاثة، الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني في سجن عكا، وأصغرهم سنا، وهو من مواليد مدينة صفد.

كان فؤاد بين عاميه الرابع والخامس حين توفي والده حسن حجازي، تاجر "الميني فاتورة"، على إثر رصاصة طائشة من بندقية أخيه عزّو، أردته قتيلا من على فرسه، أثناء زفاف أخيهما حجازي.

وبينما كان أحمد، شقيق فؤاد الأصغر، في عامه الأول، كان يوسف، الأكبر بينهم، يساهم إلى جانب والدته، شيخة عبد الله أيوب، في إعالة هذه الأسرة، والذي عمل بعد ذلك جابي أموال للدولة، أو ما يسمونه آنذاك "تحصيل دار"، ليساعد في تعليم شقيقيه.

درس فؤاد المرحلة الابتدائية في مدرسة الجامع الأحمر، ثم الثانوية في الكلية الاسكتلندية، المعروفة باسم "مدرسة سمبل"، وحصل منها على شهادة المترك، ليعمل بعد ذلك في مصلحة الصحة بصفد، إلى أن قبضت عليه سلطات الانتداب بتهمة القتل والتحريض على الثورة.

ويقول أحد أقارب الشهيد، نافيا ما ذكر حول تخرج فؤاد من الجامعة الأمريكية: "إن فؤاد لم يكمل تعليمه، لكون الأسرة كانت تحتاج لمعيل آخر"، كي يساعد في استكمال تعليم الشقيق الأصغر أحمد، ويؤكد ذلك نجل شقيق الشهيد قائلا: إن هناك لبس في الأمور، فعمي أحمد هو الذي تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، وفتح صيدلية في صفد باسم "صيدلية حجازي"، أما عمي فؤاد، فلم يخرج، طيلة حياته، من فلسطين، وهذا ما أكده لي والدي يوسف شقيق الشهيد.

والحقيقة أن فؤاد لم يبلغ عامه العشرين، عند استشهاده، وهذا ما أشار إليه الشهيد في وصيته، وما أشارت إليه والدته في كتابها إلى المندوب السامي في القدس.

يقول السيد مكرم حجازي، حول ما أشيع عن علاقة فؤاد بفتاة يهودية: "أثناء اقتحام أهالي صفد للحي اليهودي، كان بينهم فؤاد، فرأته فتاة يهودية، تعرفه وتقطن في الحي نفسه، استنجدت به، لكنه لم يصغ إليها، واستمر في تحريضه للعرب، على استكمال هجومهم على الحي، وهنا سمعه سعيد العسكري [أحد أفراد قوى الأمن في البوليس البريطاني] فشهد عليه أمام المحكمة.

وقُبض على فؤاد حجازي مع عدد كبير من أبناء صفد إثر هذا الهجوم، وقضت محكمة الجنايات بحيفا، والتي تألفت من وكيل قاضي القضاة المستر كوري، والمستر لت، يوم الأربعاء 27/11/1929 بإعدام فؤاد حجازي مع ثمانية آخرين من أهالي مدينة صفد، بعد محاكمة استمرت أكثر من 20 يوما، بتهمة قتل موشي أفريات وزوجته، وجرح ابنته، أما الثمانية الآخرون، فهم: محمد سليم زينب، جمال سليم الخولي، علي سليم الحاج درويش، محمد عبد الغني حجازي، توفيق عبيد أحمد، أحمد صالح الكيلاني، رشيد سليم الحاج درويش، ورشيد الخرطبيل، وبرأت المحكمة ذاتها أحمد مصطفى شريفة، ثم عادت وحكمت عليه بالإعدام، والجدير ذكره أن وظيفة فؤاد في دائرة رسمية، كانت حجة لتزكية الحكم عليه بالإعدام.

وفي سجن عكا، لم ينقطع فؤاد عن كتابة مذكراته، طيلة فترة سجنه، ومما كتبه في هذه المذكرات، بعدما استدعاه المستر ستيل مدير سجن عكا المركزي، وأبلغه بساعة إعدامه ورفيقيه: "إذا كان إعدامنا، نحن الثلاثة، يزعزع شيئا من كابوس الإنجليز عن الأمة العربية الكريمة، فليحل الإعدام في عشرات الألوف مثلنا، لكي يزول هذا الكابوس عنها تماماً".

ويذكر أنه، وهو يكتب هذه الجملة، دخل عليه بعض أقاربه وأصدقائه للوداع الأخير، فرأوه يكتب بيد حديدية، لا تهاب الموت، وبقلب مملوء إيمانا، وعنفوانا، وثقة بالله، فقال له أحدهم، محاولا التخفيف عنه رهبة الموقف: "خفف عنك، فمن ساعة إلى ساعة فرج، الأمة كلها مهتمة بكم، ولعل الملك يعفو عنكم".

فأجاب فؤاد: "إنني أعتقد أن إعدامنا فيه خير لأمتنا، لذلك أرجو الله أن لا يتم العفو".

ولدى سؤال أحد أقارب حجازي عن مصير مذكرات الشهيد حجازي، أجاب: "عندما جاءت والدته لوداعه الأخير، تقدم منها، وسلمها مجموعة من الأوراق، في الغالب هي المذكرات والوصية، لكن رجال السجن، بأمر من المستر ستيل، قاموا باختطاف الأوراق منها، واحتفظ ستيل ببعضها، وأعاد لها البعض الآخر".

أما عقيلة يوسف حجازي، شقيق الشهيد، فأكملت تقول: إن والدي، وهو خال الشهيد، قد أخذ ما حصلت عليه والدة فؤاد من أوراق، واحتفظ بها لديه، إلا أنها فقدت عندما هدم الإنجليز منازلنا في أعوام متتالية".

وطلب فؤاد من مدير السجن أن يرى الغرفة السوداء والمشنقة [غرفة الإعدام]، فلبى المدير طلبه، ودخل فؤاد الغرفة، وقاس الحبل على عنقه، وخرج مبتسماً، وهو يقول: "لا بأس لو كان القياس أصغر أو أكبر، فكلا الحالين واحد".

أدرك فؤاد أن "لا حق لأمة في الحياة ما لم تضح، وما لم تقدم الشهيد تلو الآخر، وهذا ما نلمسه من خلال واقعتين، تتعلق أولاهما بما رواه أحد رفاقه، ممن زاروه في السجن قبل تنفيذ الإعدام، إذ قال: "شعرت في حضرته الرهيبة، كأني أنا المحكوم عليه بالإعدام، وأنه هو الذي أتى ليزورني ويشجعني".

أما الواقعة الثانية، فكانت كلماته إلى وفد الجمعية الإسلامية-المسيحية بحيفا، عندما زار الوفد ثلاثتهم، فقد أنّبهم حجازي قائلا: "دعونا نموت، لا تشغلوا أنفسكم بنا، فإن هذه الأحكام التي يصدرونها في حقنا، يجب أن لا نأبه بها، وأن لا تشغلنا عن التفكير بمستقبل بلادنا، نحن المكبلين بالحديد، فكيف تؤخركم أنتم عن العمل لخير بلادكم، نحن لسنا بحاجة إلى التشجيع، وكل ما نحن بحاجة إليه، هو أن نسمع، قبل أن يفرّق البين بيننا وبين الحياة، وقبل أن نعلّق على أعواد المشانق، أنكم أمة تستحق الحياة".

ليلة الإعدام، كتب فؤاد وصيته، ووجهها إلى أمه وأخويه، والأمة العربية، وبعث بها خصيصا لجريدة "اليرموك" الحيفاوية، التي قامت بنشرها يوم 18/6/1930، وهذا نص وصيته كاملاً:

"إذا كان لدي ما أقوله، وأنا على أبواب الأبدية، فإني أوجز القول قبل أن أقضي: أخوي العزيزين، يوسف وأحمد، وفقكما الله، رجائي إليكما أن تفعلا بما أوصيكما به، أوصيكما بالتعاضد والمحبة الأخوية، والعمل بجد واجتهاد على مكافحة شقاء الدنيا، لإحراز السبق في مضمار هذه الحياة التي ستقضونها، إن شاء الله، بالعز والهناء.

ورجائي إليك يا يوسف يا حبيبي، أن تلجأ إلى الهدوء والسكينة، وأن لا تأتي بعمل تكون عاقبته وخيمة، عليك أن لا تتأثر لمصرع فؤاد، لأن فؤاد لم يخلق إلا لهذه الساعة، وله الشرف أن يقضي في سبيل القضية العربية الفلسطينية.

عليك أن ترفع رأسك بين أقرانك، وأن لا تدع للحزن سبيلا إلى قلبك، وأن ترتدي دائما الملابس الجديدة، وأن تحلق يوميا، عليك أن تذهب للنزهة والأفراح كعادتك، بل أكثر، عليك بالسهر على مستقبلك، فإذا كان الله قضى بذلك عليّ، فما عليك أنت إلا الاطمئنان لحكمه تعالى، إنني من جهتي، أسامح كل من شهد عليّ، خاصة سعيد العسكري، وغدا يوم الحشر سأقابله، وأطلب حقي منه، من الله سبحانه وتعالى.

عليك أن لا تضمر لأحد سوءا، كما أوصيك بطاعة الوالدة واحترامها.

حبيبي أحمد، أما أنت يا أحمد، فعليك العناية بدروسك، والاجتهاد فيها، وأن لا تجعل القلق يستولي عليك، تأثرت كثيرا من قولك، حين زيارتك لي، إنك ستأخذ بثأري، فهذا يا حبيبي لا يعنيك أنت، لأنني لست بأخيك وحدك، بل أنا قد أصبحت أخا لأمة، وابن الأمة جمعاء.

عليك بطاعة والدتك، وشقيقك يوسف.

أحمد، السكينة السكينة، الهدوء الهدوء، ملابسي تحفظ شهرا ثم تلبس، ممنوع قطعيا تنزيل أي طقم علي، سوى اللباس، والفنيلة والكفن داخل التابوت.

البكاء، الشجار، التصويت، هذا ممنوع قطعيا، لأنني لم أكن أرضاها في حياتي، خاصة تمزيق الثياب، يجب الزغردة والغناء، واعلموا أن فؤاد ليس بميت، وهو عريس ليس إلا.

ويجب الاستعلام بواسطة الدلال، عما إذا كان يوجد لأحد شيء بذمة فؤاد، وسداده فورا، وأعود فأوصيكم بطاعة الوالدة.

إن الضريح سيشيد على نفقة لجنة الإسعاف العربية بالقدس، فلتعمل جنينة عند ضريحي، بدرابزين على الداير.

يا والدتي، أوصيك وصية، والوصية كما قيل غالية، أن لا تذهبي إلى قبري إلا مرة في الأسبوع، على الأكثر، ولا تجعلي عملك الوحيد الذهاب إلى المقبرة.

إن يوم شنقي يجب أن يكون يوم سرور وابتهاج، وكذلك يجب إقامة الأفراح والسرور، في يوم 17 حزيران من كل سنة، إن هذا اليوم يجب أن يكون يوماً تاريخيا، تلقى به الخطب، وتنشد فيه الأناشيد، على ذكرى دمائنا المهراقة في سبيل فلسطين والقضية العربية.

أما أنت يا أماه، فصبرا صبرا، ولا يشتد جزعك لمصرع فؤاد، لأنه حي خالد الذكر، أبد الدهر، إذ ما معنى الحياة في هذه الدنيا إلا الاجتهاد في العمل الصالح، لأجل تخليد الذكر، فأنا بحمد الله قد تخلد ذكري، وستتوارثه الأجيال الآتية، جيلا بعد جيل، لهذا عليك أن تفرحي لفؤاد، الذي قضى، قبل أن يتجاوز العقد الثاني من عمره، وقد خلد له هذا الذكر.

كنت أود أن أعيش أكثر، لا حبا بالحياة، ولا حبا بك وبإخواني فحسب، بل لأقوم بالواجب الذي علي لفلسطين الشهيدة، الرازحة تحت نير الرق والعبودية.

لا تجزعي يا أماه، فإن الأحرى بك أن تقولي: ليت لي ألف فؤاد مثل فؤاد، كي يقوموا بالواجب نحو بلادهم.

إن الأمة التي يكثر شهداؤها هي الجديرة بالحياة، أما الأمة التي تخلد إلى السكينة أمام الظلم، وتقف مكتوفة الأيدي أمام القهر، فجدير بها أن يمحى اسمها من لوح الوجود.

ها أنا أقدم نفسي أول ضحية كحجر أساس لبناء الاستقلال ضمن الوحدة العربية، لك يا فلسطين الحياة الخالدة، والعلم العربي يرفرف فوق سمائك.

إلى الأمة الكريمة: إنني حررت وصاياي ومقترحاتي، بحضور السيد سليم عبد الرحمن، وقد استلم الوصايا المذكورة مني المستر ستيل، مفتش سجن عكا المركزي، فعلى الأمة أن تجد وتسعى لأجل الحصول عليها، والعمل بمقتضاها.

إن وصاياي على جانب عظيم من الأهمية، فيجب الحصول عليها، وأكرر رجائي العمل بموجبها، والمثابرة على الكفاح، حتى تنال البلاد استقلالا تاما، يضمن الوحدة العربية، لا حماية ولا وصاية.

ولتذكر الأمة دوماً، أن في الجهاد حياة، وأن الأمة التي يكثر شهداؤها هي الجديرة بالبقاء، وأن الأمة التي تقف أمام الاستعمار، والسياسة الغاشمة مكتوفة الأيدي، محكوم عليها بالفناء".

الشهيد فؤاد حجازي

16/6/1930م

* توفيت والدة فؤاد حجازي في دمشق في 22/5/1958، وتوفي يوسف في سوريا في 27/12/1987، وتوفي أحمد في دمشق بتاريخ 23/6/1981.

* محمد جمجوم [1902-1930]

محمد خليل أبو جمجوم، الثاني في قافلة الشهداء الثلاثة، رغم أنه كان مقررا أن يكون ثالثهما، إلا أنه حطم قيده وزاحم رفيقه، عطا الزير، كما زاحم من قبله الشهيد فؤاد حجازي، حتى فاز ببغيته، فاحتل المركز الثاني في هذا السباق المقدس.

ولد جمجوم في مدينة الخليل، وتلقى دراسته الابتدائية فيها، وعرف منذ صغره بمقاومته للصهيونيين، فكان يتقدم المظاهرات التي طالما اندلعت في أرجاء مدينة الخليل، احتجاجا على شراء أراضي العرب أو اغتصابها.

وكان أحد اثنين ممن لم ينلهم قرار العفو من الإعدام، من أصل أحد عشر رجلا، اتهموا بالقتل في أحداث مدينة الخليل، كما كان من ضمن أول خمسة صدر عليهم الحكم بالإعدام، والذي صدّقت عليه محكمة الاستئناف بحيفا في النصف الثاني من آذار 1930.

قال المستر كوري قاضي محكمة الاستئناف: "لقد اتضح للمحكمة أن المتهمين، محمد خليل جمجوم، عبد الشكور الشراباتي، عباس ناصر الدين، عبد الحافظ عجوري، وشحادة العويدات، قتلوا يوم 24 آب 1929، بإصرار، إلياهو أبو شديد، وإسحق أبو شديد، ويعقوب غزلان، وموسى غزلان، بقصد النهب [...]

لذلك، فإن المحكمة تلزم المتهمين الخمسة، الذين ثبت عليهم الجرم، بدفع 250 جنيها إلى فينيقيا أبو شديد، و250 جنيها إلى روز أبو شديد، و500 جنيها إلى سلطانة غزلان، ثم تلا القاضي المستر كوري الحكم بإعدام الخمسة.

ظل جمجوم ضاحكا طيلة فترة سجنه، ولما رأى أمه تبكي أثناء وداعها الأخير له، قال: "ولماذا تبكين يا أماه؟ أتبكين علي لأنني أريد أن أموت شهيدا؟ زغردي يا أماه، زغردي لأن هذا اليوم هو يوم عرسي.

فردت والدته: وهل تريد أن أزغرد ليسمع الناس صوتي في هذا السجن؟ فقال لها: لا، ولكني أريد أن أراك مسرورة، أريد أن أرى وجهك يتهلل فرحا، أريد أن لا أرى غيمة سوداء على وجهك، أريد أن تزغردي، لأن هذا اليوم يوم عرسي يا أماه، أسألك بالله ألا تجزعي، فإني لست أول من شنق، ولا مردّ لقضاء الله.

فقالت: وهل تظن أني آسفة عليك يا محمد؟ لا يا ولدي، وأي شيء أشرف من هذه الميتة؟ ومن تكن مثلي لها ولد يقف مثل هذا الموقف، فهل تتأسف وهل تحزن؟ لا، إني لست حزينة عليك، لقد مات أبوك، ولم يذكره أحد، أما أنت، فيكفيني أن اسمك ملء الأفواه كلها، وأن ذكرك يبقى حياً، إني فخورة بك، فاذهب يا ولدي، اذهب الله يرضى عليك.

وغنت له على طريقة أهل الخليل:

السجن لك قفص من ذهب

والقيد لك خلخال

وحبل المشنقة كردانك

يا زينة الرجال.

وقال لها في اللقاء ذاته: لي عندك حاجة، وهي أن ترسلي لي ليمونادة، لأسقي جميع الذين في السجن، أريد أن يشربوا ليمونادة عرسي، قبل أن أموت، يا أماه، أريد أن يفرح الناس بي، قبل أن أعلق على المشنقة، فاذهبي يا والدتي، وأرسلي الليمونادة، لأسقيها للناس، بدلا من خمر أفراحي.

وفعلا أرسلت له أمه ما طلب، وكان يوزعها على السجناء ويقول: اشربوا ليمونادة عرسي يا قوم.

* عطا الزير [1865-1930]

عطا أحمد الزير، من مواليد مدينة الخليل، وهو ثالث قافلة الخلود، وثاني من لم ينلهم العفو من الإعدام، والذين اتهموا بالقتل في منطقة الخليل، وهو ممن ألموا بالقراءة والكتابة إلماما بسيطا، حتى أنه كان ينظم الشعر ويقوله أحيانا.

عمل الزير في عدة مهن يدوية، واشتغل في الزراعة، وعرف عنه منذ الصغر جرأته وقوته الجسمانية، واشترك في معظم المظاهرات التي شهدتها مدينة الخليل، احتجاجا على هجرة الصهاينة إلى فلسطين، ولا سيما إلى مدينة الخليل.

شارك الزير في هبة البراق، مدافعا عن أهله ووطنه، فقد قُتل في مدينة الخليل وحدها في هذه الهبة ستون صهيونيا، وجُرح أكثر من خمسين آخرين.

حكم على عطا الزير بالإعدام بتهمة القتل، في جلسة يوم الخميس 25/12/1929 وكذلك على عبد الجواد فرّاح.

كانت والدته متوفاة، فقال لأخواته حين ذهبن لوداعه باكيات: لا تظنوا أني ميت، أنا حي فلا تبكين علي، أتأسفون علي؟ لست جبانا لأخشى الموت، لا يخاف الموت إلا الجبناء، الأنذال، وضعيفي الإيمان بالله والآخرة.

وطلب الزير وجمجوم من زوارهم أن يحضروا لهم "حنّاء" من أجل "العرس" كعادة أهل الخليل.

* كتب الثلاثة رسالة إلى رجل وطني من طولكرم يدعى سليم بك عبد الرحمن، جاء في نهايتها: وختاما، نرجو أن تكتبوا على قبورنا: "إلى الأمة العربية، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وباسم العرب نحيا، وباسم العرب نموت". وقد نشرتها الصحف في حينه.

* يروي سليم بك عبد الرحمن تفاصيل ليلة الإعدام التي عاشها معهم، فقد كتب يقول:

في ليلة 17 حزيران 1930، في الثامنة والنصف مساء، دقت أجراس سجن عكا معلنة بلزوم نوم كل سجين، وموت كل حركة مهما كان نوعها.

ساد السجن صمت عميق، وفي منتصف الليل جاءني جندي عربي من الحرس يحمل علبة سجائر ماتوسيان، فدسها إلي قائلا والدموع في عينيه: خذ هذه من فؤاد حجازي، فقبلتها وفتحتها، وإذا بي أقرأ ما خطه يراع فؤاد، ضمن الليلة بقلم رصاص: أنا واثق بأنك يا سليم قلق هذه الليلة، ولن تنام، فتقبل هديتي مع قبلاتي الحارة، يشاركني بهما أخواي جمجوم والزيرـ فؤاد حجازي.

فأخفيت العلبة والسجائر، واحتفظت بالغلاف، وبعد برهة أتى جندي عربي آخر، يحمل علبة سجائر ثانية، فأخذتها ووجدت ضمنها تحرير وشكر وثناء موجها إلي من فؤاد ورفيقيه، وموقعا منهم جميع، فدهشت لهؤلاء الذين لم ينسهم دنو ساعة مفارقتهم الحياة إخوانهم وأصدقائهم.

وبقينا طيلة ليلة الإعدام نتبادل الخطابات والتحارير السرية حتى مطلع الفجر.

وانبلج النهار، وبزغت شمس يوم 17 حزيران، فتمكنت من الذهاب لزيارة فؤاد ورفيقيه، قبل قدوم المدير وضباط الجيش، فوجدت عند فؤاد بالغرفة عمه، الشيخ الوقور المحكوم بالسجن المؤبد بسبب اضطرابات صفد، وهو إبراهيم أفندي حجازي، فتعانقنا مودعا كل منّا الآخر، الوداع الأخير، ولم تظهر على فؤاد أي علامة خوف أو وجل، وانتقلت لوداع جمجوم والزير، الذين كانت أيديهما مخضبة بالحناء، وهي عادة من يذهب للأعراس عند العرب.

وأكثر الشهداء الثلاثة من التوصية على ذويهم، وأهلهم، ومن الاهتمام بالقضية، ودوام الاتحاد والاتفاق بين عرب فلسطين، وأنهم إن ماتوا وبليت أجسامهم، وعاشت الأمة العربية، فيسرهم ذلك.

وبعد قليل أحضرت ثيابهم العادية، فلبس فؤاد بدلته الافرنجية وطربوشه الجميل، وقال: لئن لم نتمكن من زيارة فلسطين ونحن أحياء، فالحمد لله أننا سنزورها ولو على آلة حدباء، ويكفي أن نتخلص من السجن والظلم والإرهاق، والله إن الموت لأفضل ألف مرة مما تقاسيه البلاد من العذاب.

وأُدخلت والدته وأخواه، وأقارب جمجوم، والزير لوداعهم الأخير، وانسللت أنا مختفيا في غرفة مجاورة لغرفة الإعدام حتى لا يراني مدير السجن.

وفي الساعة السابعة والنصف من صباح 17 حزيران، أخرجت القوات جميع أهل وأقارب الشهداء، وأغلقت أبواب المساجين الخشبية، وتوزع الجنود على جميع أسطحة السجن، وساحاته، ومعابره، وممراته، ووضع على كل باب وكل شباك جندي بسلاحه، وحرابه، ومعدات القتال التامة.

وعلت سماء السجن طيارتان، وهبطتا حتى كادت أجنحتهما تمس الأسطحة، وفي تلك الدقيقة بدأ فؤاد ينشد النشيد الآتي والذي نظمه نجيب الريس حين كان معتقلا في جزيرة أرواد عام 1922:

يا ظلام القبر خيم إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الموت إلا فجر مجد يتسامى

إيه يا دار الفخار يا مقر المخلصينا

قد هبطناك شبابا لا يهابون المنونا [...]

وصاح: ليحيا الوطن، لتحيا فلسطين حرة مستقلة، وشاركه جمجوم والزير الصياح، ثم هتف الثلاثة: لتسقط الصهيونية، ليسقط الاستعمار، ليسقط الظلم والظالمون، ولتحيا التضحية، ولتعش الأمة العربية حرة مستقلة.

* نفذ حكم الإعدام في فؤاد حجازي في الساعة الثامنة صباحا، وفي التاسعة كان من المقرر إعدام عطا الزير إلا أن صراخ هياج البطل جمجوم جعلهم يلبون رغبته وينفذون الحكم فيه قبل الزير، وفي الساعة العاشرة اقتيد الزير إلى منصة الإعدام، وحطم قيوده بقوة عضلاته وتقدم إلى المشنقة مبتسما.

* صدر الأمر بتسليم جثث الشهداء إلى أهالي عكا الذين كانوا يملأون صحن جامع الجزار المجاور للسجن، وكانت المنابر مكتظة بالخلق، والمؤذنون يؤذنون، وأجراس الكنائس تقرع حزنا على هؤلاء الأبرار.

* في ذات اليوم، اعتلى الشيخ عز الدين القسام منبر جامع الاستقلال بحيفا، وألقى خطبة مؤثرة وتحريضية، اختتمها بقوله: باسم الله نعلن الثورة، سأخرج فورًا إلى الجهاد، لن أعود إلى هذا الجامع إلا بعد طرد الإنجليز واليهود.

* ظهرت الكثير من الأشعار والأغاني التي مجدت الأبطال الثلاثة، كان أشهرها قصيدة الشاعر الفلسطيني إبراهيم عبد الفتاح طوقان [1905-1941]، بعنوان الثلاثاء الحمراء، وقصيدة الشاعر المصري محمد صادق عرنوس بعنوان الشهداء الثلاثة، وقصيدة الشاعر المقدسي رئيف ميخائيل الساعاتي بعنوان "فلسطين"، ولكن القصيدة التي ما زالت حية وتغنى في المناسبات إلى اليوم هي تلك القصيدة العامية التي مطلعها:

من سجن عكا وطلعت جنازة

محمد جمجوم وفؤاد حجازي

جازي عليهم يا شعبي جازي

المندوب السامي وربعه وعمومًا