روت العجوز اليهودية (روث) ، وفي أثناء عيد ميلادها الـ (106)، فقالت: كنتُ، قبل مئة عام، طفلة ذات ست سنوات، وقد كُلّفت بأن أقدّم باقة ورد لـ ونستون تشرشل تعبيراً عن الترحيب به، وهو الذي أسهم مع آرثر جيمس بلفور بتظهير وعد (بلفور) إلى الوجود، وقد قال بعض ساستنا، إنّ تشرشل هو صاحب فكرة الوعد الذي كتبه بلفور في حوالي ٥٠ كلمة.

آنذاك، وأنا في عمر ست سنوات، كان ونستون تشرشل، وزيراً للمستعمرات البريطانية، وقد جاء إلى فلسطين سنة ١٩٢١، زائراً وداعماً لتنفيذ فكرة وعد بلفور عسكرياً وسياسياً، وقد زار بلدية  (تل أبيب) التي أنشأها الإنجليز عام ١٩٠٩، وبالتشاور مع العثمانيين، لتكون البذرة الأولى التي زرعوها لتكبر فيما بعد لتصير اللبنة الأساس لتحقيق أفكارنا على حساب أهل الأرض (والكلام للعجوز روث).

وأضافت قائلة: "إنه ومن ضمن تزيين منطقة استقبال تشرشل في حديقة بلدية (تل أبيب) قام منظمو الحفل بقطع أشجار صنوبر من خارج حدود المستوطنة، وجاءوا بها على عجل، وغرسوها في الأرض الرملية في حديقة البلدية لتبدو أمام الضيف ونستون تشرشل (أكثر جمالاً، وأقرب منظراً إلى مناظر الحدائق البريطانية، قمت وقدمت باقة الورد للضيف، وتنحيت جانباً، لأنه شرع في خطاب شعرت أنه ممل وطويل، واستندت إلى شجرة قريبة مني، فمالت الشجرة وسقطت، وبأن جذعها المقطوع، وسقطت معها أشجار أخرى، وبانت أيضاً جذوعها المقصوصة، وظهرت الخدعة بأنها أشجار غير طبيعية، وأنها مجلوبة، عندئذ رأيت تشرشل ينفجر ضاحكاً، ثم قال وهو ينظر إلى رئيس بلدية (تل أبيب)، أخشى أن تسقط أحلامكم هنا يوماً، حتى لو ساعدناكم، وساعدكم كلّ العالم على إنشاء دولتكم، فلا شيء ينبت هنا من دون جذور!

الآن، أتذكر هذه الحادثة، التي حاول الإعلام الإسرائيلي محوها مراراً، لأنها على لسان عجوز إسرائيلية، أتذكرها وأنا أقرأ وأسمع وأرى وأعيش موجة التوحش التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في جميع البقاع الفلسطينية، وفي مقدمتها مدن نابلس وجنين والخليل وأريحا والقدس، وسفك الدماء، ونشر الرعب والخوف في كلّ مكان، في ظلّ حكومة إسرائيلية متطرفة يتبارى أعضاؤها بالأقوال والتهديدات، والممارسات الأكثر عنصرية ودموية وبطشاً بحق أهلنا، وأتذكر هذه الحادثة أيضاً، وأنا أقرأ وأرى وأسمع وأعيش حالات وصوراً، ومشاهد يقوم بها الإسرائيليون بحق الزروع، وحقول الورد، وبساتين الزيتون، إنهم، و قبل ساعات من الآن،  يقتلعون ويقصّون، وبالحقد الكامل، مئات  من أشجار الزيتون، وفي مناطق فلسطينية مختلفة، وفي مقدمتها مدينة بيت لحم، إنهم يقصّون أشجار الزيتون التي أفاء إليها سيدنا المسيح عليه السلام، ونام في ظلالها، لكن الأشجار التي يقصونها، ومنذ سبعين سنة وأزيد، تعود إلى صعودها المهيب نحو الفضاء الفلسطيني الرّحيب، وتعود إليها أغصانها وأوراقها، وأفياؤها، مثلما تعود إليها ثمارها الملأى بالزيت، والصفاء، والضوء، وأتذكر الآن هذه الحادثة، التي روتها العجوز الإسرائيلية، وأنا أقرأ وأرى وأسمع وأعرف، ما الذي يفعله الإسرائيليون بأجمات القصب والغار والزل المحيطة ببحيرة طبريا، إنهم يقصّونها  أيضاً بين فترة وأخرى، كي لا تبقى علامة تاريخية تجسّد الحياة الصعبة التي عاشها سيدنا المسيح عليه السلام  طريداً وقد  جاء إليها ليتوارى عن أعين مطارديه منهم، لقد أحرقوا جذور القصب والزل والغار في مناطق عدة تحيط بالبحيرة، لكن الأرض ظلّت وفيةً لذاكرتها، ووفية للجذور التي تتعالى في كلّ مرة صاعدة بخضرتها المجنونة، لتقول لهم:  إنّ مثل هذا التاريخ لا يمحى!

بلى إنهم ومنذ سبعين سنة وأزيد، لا يفعلون شيئاً سوى الحرق، والقصّ، والقطع، والتشويه، وإراقة الدماء، ونشر ثقافة الإخافة والترويع، فهم لا يجيدون سوى هذه الممارسات التي أتقنوها من دون أن يأخذوا أيّ اعتبار لأخلاقيات أو قوانين أو قيم عرفها تاريخ البشر، ومن دون أن ينظروا إلى مرايا التاريخ التي امتلأت بالدم والتوحش، وإلى المصائر التي آلت إليها، وهي الاندثار، والانتحار، والانطفاء، وهم الآن، في بلادنا الفلسطينية، يعمّقون جورتهم (أكثر فأكثر من أجل الاندثار والانتحار والإنطفاء، ولا خيار أمام التوحش والعنصرية سوى هذا)!

المصدر: الحياة الجديدة