في حي السلام بمدينة رفح، أقصى جنوب قطاع غزة، يتوافد مواطنون لبيت عزاء يونس حيدر الشاعر (21 عاما) الذي توفي غرقا مع آخرين، قبالة السواحل التونسية، خلال محاولته الهجرة إلى أوروبا، وفقا لذويه ولما أعلنته وزارة الخارجية والمغتربين.

في بيتها الممتلئ بنسوة من الحي اتشحن بالسواد جئن يواسينها، جلست سميرة الشاعر، والدة يونس، تحمل هاتفا نقالا تتفحص صورة فلذة كبدها وتبكي ألما لفراقه.

لم يكن يونس يتجاوز الأحد عشر عاما عندما توفي والده قبل عشر سنوات، أكمل حياته يتيما في كنف أمه، أنهى دراسته الثانوية والتحق بالجامعة لدراسة المحاسبة.

"كان يدرس في الجامعة ثم تركها لعدم توفر المال، وأيضا لم يجد عملا يؤمّن به مستقبله فقرر الهجرة". قالت الوالدة المكلومة.

ترك يونس غزة في شهر شباط/ فبراير من العام الجاري، وكان آخر اتصال مع شقيقته سارة في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر ثم غاب ولم يعد.

وكشفت أم الفقيد، التي تعيل ثمانية من البنين والبنات، أن يونس وصل الأراضي الليبية ثم حاول من هناك الإبحار وفشل أكثر من مرة.

 "كان ساخطا على نمط حياتنا واعتمادنا بشكل كبير على الجمعيات الخيرية بسبب وفاة والده، فقرر أن يتخلص من هذا النمط واستدان بعض الأموال وقرر السفر"، قالت والدته.

"عندما توسلته ليعود، أكد لي أنه سيعود بعد ضمان سداد الديون وتحصيل رأس مال لمشروع ينطلق به في غزة له ولاخوته" أضافت.

أحمد، شقيق يونس، قال إن القارب الذي حمل شقيقه ومن معه غرق دون أن يعلم أحد بهم، لولا أن قاربا آخر يحمل تونسيين غرق واستنجد الركاب بالنجدة التونسية التي توجهت لانقاذهم فوجدوا بمحض الصدفة القارب الآخر.

ويتعرض الشبان لأخطار عدة مثل الموت غرقا أو السطو المسلح والسرقة والتهديد، كما قالت منيرة الشاعر، التي نجا نجلها سمير من غرق إحدى السفن العام الماضي.

وحينها سطا المهربون في تركيا على أموالهم وأجبروهم تحت تهديد السلاح على ركوب قارب مهترئ متوجها لليونان ما أدى لغرقهم، وتم انقاذ سمير ورفاق له لكن توفي صديقان آخران.

"اركبوا القارب وإلا سأطلق عليكم النار" قال المهرّب للشباب، وفقا لمنيرة نقلا عن سمير.

ولا يزال ثلاثة من أبناء عمومة يونس مفقودي الأثر وهم الأخوين ماهر ومحمد طلال الشاعر وسامي الشاعر وآخرين.

وصلت سيارة تقل الرجل الستيني عامر أبو زريق، وعدد من الشبان، قدموا واجب العزاء لآل الشاعر ثم سألوا اخوة الفقيد يونس عن إبنهم عاهد ابن السادسة والعشرين عاما الذي اختفت آثاره أيضا.

جلس عامر ومن معه، يستمع بقلق لشقيق يونس وهو يروي التفاصيل والمعلومات التي وردت بخصوص يونس، ويطرح أسئلة تفصيلية حول أسماء من كانوا على متن القارب وكيف عُثر عليهم والمستشفيات والأطباء والسفارة الفلسطينية وكل شيء.

لم يستطع والد عاهد الاسترسال في حديثه مع مراسل "وفا" فقد بدى عليه القلق والتوتر لكنه أشار على وجه السرعة أن نجله ركب البحر من أحد الشواطئ الليبية برفقة يونس الشاعر وآخرين واختفت آثاره  حتى اللحظة، وركب سيارته وانطلق برفقة شبان معه.

وتدعو أم يونس الشباب لعدم التهور والسفر بطرق غير آمنة، لكنها في ذات الوقت تعتقد أن هروبهم من غزة بهذه الطريقة لن يتوقف إلا بتوفر حياة "عادية مثل باقي الناس" تصلح للتجارة والعمل بدون جمارك وضرائب باهظة.

وأشارت إلى أن يونس حاول التجارة بجلب بضائع من مصر عبر معبر رفح بيد أن الضرائب الكبيرة التي تفرضها "حماس" شلت عمله وأحبطته.

وكانت وزارة الخارجية والمغتربين قد أعلنت يوم الأحد الماضي، متابعتها لحادثة غرق مركب قبالة السواحل التونسية يقل مواطنين فلسطينيين، حيث تم التعرف على أربعة من الضحايا هم: يونس حيدر عجية الشاعر (21 عاما)، وآدم محمد شعث (21 عاما)، ومقبل مجدي مقبل عتيم (30 عاما)، ومحمد محجوب عبد الله (38 عاما) الذي يحمل وثيقة سورية.

في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، لقي خالد حافظ شراب ومصطفى خالد السماري مصرعهما غرقا قرب جزيرة "كوس" في اليونان، وفي أيار/ مايو الماضي فقد 5 فلسطينيين في حادث غرق مركب قبالة السواحل التونسية.

ولم تتوفر إحصائية بعدد من غادروا غزة في السنوات الأخيرة بهدف الهجرة.

ويعيش قطاع غزة في تدهور اقتصادي وإنساني مستمر منذ انقلاب حركة "حماس" على الشرعية في تموز/ يوليو 2007. كما شهد ارتفاعا في وتيرة هجرة الشبان بسبب ارتفاع نسبة البطالة.

وقال الباحث في علم الاجتماع السياسي طلال أبو ركبة، إن الشباب في غزة يهجرونها لأنها باتت بيئة طاردة للشباب، نتيجة ما يواجهه الشباب من شح في فرص العمل والحياة الكريمة، بسبب الاحتلال الذي خنق كافة مستويات الحياة في القطاع وللإنقسام السياسي وما تبعه.

وأضاف أن "ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وغياب الحريات خصوصا بين أوساط الشباب، باتت بيئة منفّرة لهم والوضع الطبيعي أن يهجروا غزة بحثا عن فرص أفضل".

وتبلغ نسبة البطالة بين الشبان الذين يحملون مؤهلا تعليميا (دبلوم متوسط فما فوق) في غزة 75% وفقا لتقرير للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني يغطي الربع الأول من 2022.

ووفقا للإحصاء، فقد عبر 46% من الشباب في غزة عن الرضا عن الحياة فيها. ويبلغ عدد الشباب والشابات (في عمر بين 18 و29) في فلسطين 1.17 مليون من مجمل 5.35 مليون نسمة بنسبة 22%، منهم 22.2% في الضفة الغربية و21.5% في قطاع غزة وفقا لتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني منتصف 2022.

وكشف تقرير لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا) إن 1.3 مليون من أصل 2.1 مليون فلسطيني في غزة (62%) يحتاجون إلى المساعدات الغذائية.

وأشار التقرير الذي نشر في حزيران/ يونيو 2022 في ذكرى مرور 15 عاما على الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، أن 31% من الأسر في غزة يواجهون صعوبات في الوفاء باحتياجات التعليم الأساسية.

في مخيم جباليا شمال غزة، خمسة من الشبان جلسوا على كراس مهترئة وأحجار خرسانية يتحدثون في كل شيء، كان حديثهم الرئيس عن الهجرة من غزة ومخاطرها.

محمد حلاوة (26 عاما)، درس الهندسة الكهربائية ويعمل بنظام "المياومة" في مصنع للخياطة، قال: "أعمل بنظام الساعة وأحصل كل يوم أعمل فيه زهاء 25 شيقلا (7.15 دولار) ولا أعمل كل يوم".

وأشار إلى أنه يتفهم حاجة الشباب الذين يلجأون للهجرة غير الشرعية من غزة، ولو سنحت له الفرصة فلن يتردد.

"ليس لدي مال كي أسافر، أرغب في الهجرة بحثا عن فرصة عمل لأنه لا أمل ولا أفق ولا فرص عمل في غزة،" أضاف حلاوة.

وأشار إلى أن أصدقاء له وصلوا تركيا واليونان، ويؤكدون أنه لو توفر لهم فرصة عمل دائمة بـ 40 شاقلا في غزة فسيعودون فورا.

وأشار الباحث أبو ركبة إلى أن الانقسام كرس سياسة قاسية للغاية بحق الشباب لدرجة باتت معها محاولات أي شاب أو مجموعة شبابية للمطالبة بحياة كريمة أو فرصة حياة بمثابة تهديد للأمن القومي، الأمر الذي دفع الشباب للنفور.

وأضاف أن لا توصيات قابلة للتحقيق في إنقاذ مستقبل الشباب في قطاع غزة، بمنأى عن عملية الإصلاح السياسي الشامل والكامل، والتي تبدأ بانهاء الانقسام واستعادة دولة القانون.

"الشيء الوحيد الذي يمكن من خلاله القيام بعملية تعافٍ للقطاع يكمن في استعادة القطاع لحضن المؤسسة الفلسطينية الواحدة والموحدة والتي تؤسس لرؤية وانطلاقة وطنية،" قال أبو ركبة.