بداية شهر حزيران ٢٠٢٢، حصل تعديل على العلاقات الفلسطينية الأميركية فتمت الترقية من "وحدة الشؤون الفلسطينية" ‏إلى "مكتب الشؤون الفلسطينية".


قبل تحليل هذه الخطوة ضروري الرجوع لأحداث سابقة منذ اغلاق القنصلية الأميركية في القدس بقرار دونالد ترامب ‏وافتتاح سفارة امريكية لإسرائيل أيار ٢٠١٨، حينها تم استحداث وحدة داخل السفارة الامريكية لإسرائيل، الوحدة كانت ‏تُعنى بالشؤون الفلسطينية ولكنها تابعة للسفير. ‏
لقد أنهت الإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترامب أعمال القنصلية الأميركية التي تتعامل مع الفلسطينيين منذ أكثر من ١٧٧ ‏عاماً وعملت على دمج القنصلية الأميركية بالسفارة تحت مسمى "وحدة الشؤون الفلسطينية". من الضروري التنويه لتاريخ ‏افتتاح القنصلية الأميركية في القدس منذ عام ١٨٤٤م، حين قررت إدارة جون تايلر، الرئيس الأمريكي العاشر، تعيين أول ‏قنصل أمريكي في القدس لترسيخ العلاقات الفلسطينية الأمريكية.‏
إذاً تاريخ العلاقة اكبر بكثير من دولة الاحتلال أصلاً، ومنذ قرار ترامب لم تغلق السفارة في تل ابيب بل الحقيقة انها العنوان ‏الامريكي للإسرائيليين، أما الفلسطينيون، فمنذ ذلك الوقت يطالبون بإعادة افتتاح القنصلية، قاطع الفلسطينيون ادارة ترامب ‏دبلوماسياً وقنصلياً حتى مجيء الديمقراطيين برئاسة بايدن إلى البيت الابيض، حينها تم انعاش العلاقات الفلسطينية الامريكية ‏من جديد أملاً في تصحيح الواقع الذي فرضه ترامب والتعامل مع الحق الفلسطيني في القدس. ‏
جاء وزير خارجية أمريكا آنتوني بلينكن في أيار ٢٠٢١ ووعد الفلسطينيين علناً أن الادارة ملتزمة بإعادة فتح القنصلية ‏في القدس. مر عام ونصف على تولي بايدن الرئاسة وها هو يحضر لجولة في المنطقة خلال شهر من الآن. على الصعيد ‏الفلسطيني ما تم استحداثه حديثاً يفيد بأن رئيس مكتب الشؤون الفلسطينية لا يتبع الآن للسفارة ولا يعود بالتقارير للسفير الآن ‏كما كان الوضع تحت مسمى "وحدة"  ولكن يعود بتقاريره لواشنطن مباشرة لوزارة الخارجية وبالتحديد لنائب مساعد وزير ‏الخارجية الامريكي للشؤون الفلسطينية الاسرائيلية هادي عمر مباشرة. نية إدارة بايدن بإعادة فتح القنصلية في ‏القدس كانت واضحة، إلا ان حجج تمرير الميزانية وضمان استقرار الحكومة الاسرائيلية وقفت عراقيل أمام التزام البيت ‏الابيض، والآن تماطل أمريكا بذريعة الانتقال من رئاسة نفتالي بينيت ليائير لابيد وضمان انتقال سلس ومستقر يضمن بقاء ‏الحكومة الهشة! بغض النظر عن ذرائع التأخير، من وجهة النظر الفلسطينية اذا كانت ادارة بايدن جدية فعلاً ما عليها سوى ‏إعادة افتتاح القنصلية التاريخية بدلاً من المماطلة وتغيير لا يتجاوز التسميات والتفاصيل الشكلية.‏
بنفس الوقت، يرى كثير من المحللين اليهود الأمريكان أن خطوة إدارة بايدن أكثر من مجرد تغيير الاسم من "وحدة" إلى ‏‏"مكتب" بل يرون أن هذه الخطوة خطيرة وبمثابة افتتاح قنصلية عملياً ‏de facto‏ ! ‏
أختلف مع هذا المنظور بشكل كلي، لا داعي للف والدوران في حلقات مفرغة من شأنها تشتيتنا في تفاصيل هدفها المراوغة ‏وشراء المزيد من الوقت لسياسة الاستيطان والابارتهايد والعنصرية، فالحقيقة النهائية ان المكتب موجود في السفارة ! ‏
الموضوع لا علاقة له بالسفارة ولا علاقة له بالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، فما زالت السفارة تعمل في تل أبيب، ‏الموضوع الذي يهمنا له علاقة فقط بحق الفلسطينيين في القدس وعدم معاملة الفلسطينيين كأقلية كما جاء في "وعد بلفور"، ‏وهذا يأتي فقط من خلال تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبه ترامب من خلال اعادة افتتاح السفارة الامريكية في القدس! ‏
نتوقع من ادارة بايدن ان تفتح القنصلية لعدة أسباب: ‏
أولاً: احتراماً للقانون الدولي و ‏status quo‏ اي الوضع القانوني لمدينة القدس، على أمريكا اتخاذ القرار وتنفيذه دون انتظار ‏موافقة الاسرائيليين، لأنها بذلك تحاول تصحيح خطأ استراتيجي ارتكبته ادارة دونالد ترامب والتي بالمناسبة لم تستشر أحدا، ‏ولم تلتفت للحق الفلسطيني ولا لمعارضة ممثلي المجتمع الدولي الذين رفضوا الخطوة صراحة.‏
ثانياً: الإدارة الأمريكية تظهر لنا وكأنها ملتزمة بألا تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، هنا لا بد من التذكير أن الإدارة السابقة ‏لم تكتفِ فقط بالتدخل ولكنها فرضت حقائق على الأرض وغيرت الوضع وانتهكت حقوق الفلسطينيين وخالفت القانون ‏الدولي. ‏

ثالثاً: تمنح الولايات المتحدة الأمريكية اسرائيل 3.8 مليار دولار سنوياً للأسلحة، وغيرها من الاموال التي تأتي بأشكال ‏شتى. إذاً، من السهل على أمريكا استخدام دبلوماسية القسر على الاسرائيليين من خلال المساعدات المالية. لقد هدد الأمريكان ‏مراراً وتكراراً بإيقاف الدعم في حال تعنت الفلسطينيون في اي موقف، ولقد نفذوا تهديداتهم في ظروف مختلفة مثل وقف ‏دعمهم لليونسكو او للأونروا ووقف مشاريع تمويل هائلة وانسحابهم من المنظمات الدولية التي تدعم الفلسطينيين! ما الذي ‏يمنع ممول إسرائيل الأول من استخدام صلاحياتها كقوة عُظمى بفتح مكتبها، التمثيل الرسمي تجاه الشعب الفلسطيني في ‏القدس؟ ‏
رابعاً: من الضروري لأمريكا أن تُذَكِّرْ اسرائيل أن القنصلية الأمريكية بالقدس وُجِدتْ قبل وجود دولة إسرائيل أصلاً وقبل ‏انعقاد مؤتمر هرتزل الذي قرر إنشاء الدولة الصهيونية، وعليه بايدن لن يأتي بشيء جديد بل سيعيد ترتيب الأوضاع قانونياً ‏وأخلاقياً، من غير المقبول تدمير علاقة اقترب عمرها من مائتي عام. ‏
خامساً: كما قامت إدارة بايدن بالتراجع عن قرارات ترامب الكثيرة من المكسيك إلى أوروبا وإيران واليمن وافغانستان، عليها ‏اعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس اعترافاً منها أن ما أقدم عليه دونالد ترامب هو مخالف لاتفاقية السلام، وبشكل أوضح ‏المادة 7 من اتفاقية 1995، كونها خطوة أحادية الجانب، كما أن الخطوة شكلت انتهاكاً للقانون الدولي واتفاقيات جنيڤ ‏وقرارات مجلس الأمن الدولي التي تحفظ حقوق الفلسطينيين داخل حدود 1967 بما فيها القدس، قرار 242, 253, 267, ‏‏298, 476, 478, 2334. ‏
سادساً: بدلاً من استمرار الإدارة الأمريكية بمناشدة الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي للامتناع عن خطوات أحادية تقوض حل ‏الدولتين بما في ذلك الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية، على بايدن أن يعترف بأن ترامب سهل عملية تهويد القدس وضمها ‏وعمل على تحويل الصراع فيها إلى ديني، وهنا مطلوب من بايدن أن يصحح الوضع وأن يلعب دوره كوسيط حقيقي للسلام ‏في المنطقة بوضع موقف أميركي على الطاولة لمحاولة التقريب من خلال احترام الاتفاقيات والوضع القانوني للقدس. ‏
من المتفق عليه دولياً، أن أفضل طريقة لتأمين التعاون بين الأطراف المتنازعة هي بناء النتائج تدريجياً بمرور الوقت والتي ‏بدورها يتوقع منها بناء الثقة، لأن ذلك يظهر الجدية. ولكن الحقيقة هنا مختلفة على مدار ثلاثة عقود، تم إثبات فشل ‏استراتيجية التدرج الانتقالية كما قد يسميها الأمريكان والتي تعني ببساطة القيام بالأشياء بشكل تدريجي والبناء خطوة ‏خطوة ببساطة، لأننا بحاجة لإعادة الرواية لمواجهة "الاحتلال" وإنهائه بدلاً من هدر المزيد من الوقت والأموال والطاقات ‏التي من شأنها تعزيز الاستيطان والتهجير القسري والاعدامات الميدانية وتمكين منظومة الابارتهايد الاسرائيلية. ‏
وعليه، السؤال الذي يتبادر للأذهان في الوقت الذي تحضر به الادارة الأميركية لزيارة دول عربية الشهر القادم: كيف تقبل ‏شعوب المنطقة الحضارية التي تطمح بشرق أوسط جديد يقوم على السلام والاقتصاد المستدام بأن نشهد تفوق عرق على آخر ‏؟ كيف ترضى ان نشهد تفضيل لأتباع دين دون غيره؟ كيف ترضى بأن تكون القدس "العاصمة اليهودية لدولة إسرائيل" ؟ ‏ألا تُدرك أن هذا هو أساس صفقة القرن التي تعتبر مرجعية "اتفاقيات ابراهام" ؟ إنه لأمر محزن أن إدارة بايدن تترك نافذة ‏للفرصة تمر، ولا تلجأ لاحترام وتطبيق القانون والشرعية الدولية وتصحيح أخطاء ترامب في المنطقة كخطوة أولى باتجاه ‏بناء السلام، بدلاً من الحديث عن وحدة أو مكتب أو عن استراتيجية التدرج والمساعدات وتمويل المشاريع الانسانية ‏والتسهيلات الاقتصادية. لا بد من البدء بإعادة افتتاح القنصلية ثم مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وقبل الحديث عن أي ‏أفق للمفاوضات أو خطوات بناء الثقة، لا بد للإدارة الامريكية من الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتحديد حدود دولة اسرائيل، ‏يكفي تشتتاً بالتفاصيل، حان الوقت لتطبيق الشرعية الدولية واحترام حقوق الشعب الفلسطيني السياسية وليس فقط الانسانية.‏
الرسالة التي يجب أن يدركها بايدن قبل وصوله إلى فلسطين والمنطقة، أن آمال الشعب الفلسطيني به كانت عالية جداً، وأن ‏الفلسطينيين احتفلوا عند نجاحه بالانتخابات آملين ان يشهدوا تصحيحاً لقرارات ادارة ترامب غير القانونية وتصحيحاً للواقع ‏الذي فرضه ترامب مخالفاً القانون والشرعية الدولية المتفق عليها فيما يخص القدس تحديداً! ‏
محزن جداً التشتت الذي نشهده والغوص في تفاصيل كثيرة نحن بالغنى عنها. متوقع من بايدن ان يتخذ قرارًا واضحًا بالرجوع ‏عن قرار ترامب، وببساطة إعادة افتتاح القنصلية في القدس.

المصدر: الحياة الجديدة