خاص / مجلة القدس

يشكل العرب اليوم 5% من سكان العالم. لكن ما هي حصتهم من الإنتاج المعرفي العالمي؟ لنتأمل قليلاً في بعض الأرقام: يضم العالم العربي قرابة 395 جامعة. وفي هذه الجامعات يعمل نحو 304 آلاف أستاذ وأستاذ مساعد، أي ما يساوي أستاذاً واحداً لكل 1040 طالباً. حسناً، ما هو الإنتاج العلمي المشهود لهؤلاء الأساتذة ولهذه الجامعات؟ الجواب، بالتأكيد مدعاة للأسى؛ ففي الترتيب العالمي لأفضل 500 جامعة لا توجد جامعة عربية واحدة، بينما ترد فيها أسماء جامعات إسرائيلية. وفي إسرائيل، للمقارنة فحسب، نحو 30 مركزاً للبحث والتفكير والمشورة، وتحتل إسرائيل الرقم 23 على النطاق العالمي في المستوى العلمي لمراكز الأبحاث العاملة فيها. وإذا احتسبنا الفوارق البشرية والمالية بين إسرائيل وبين الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين وألمانيا وفرنسا وانكلترا وروسيا، فإن إسرائيل تحتل المرتبة الخامسة في مجال البحث العلمي بعد اليابان وسويسرا وأميركا وفرنسا بحسب الكتاب السنوي لليونسكو (1996)، وقد حافظت على هذه المرتبة منذ ذلك الوقت. أما تقويم جريدة "التايمز" للتعليم العالي في سنة 2009 فقد تضمن ما يلي: لدى اليابان إحدى عشرة جامعة ضمن قائمة أفضل 200 جامعة في العالم، ولدى الصين ست جامعات، وهونغ كونغ خمس جامعات، وكوريا الجنوبية أربع جامعات وإسرائيل جامعتان علاوة على معهد "التخنيون" في حيفا، وجامعة واحدة لكل من اليونان وتايلاند وماليزيا وجنوب إفريقيا والمكسيك، ولم ترد في هذا التقويم أي جامعة عربية على الإطلاق.

ما هو عدد مراكز البحث العلمي العربي اليوم؟ وأين هو موقع العرب في هذا الحقل من المعرفة؟ لنقرأ هذه الأرقام: ينفق العرب 300 مليار دولار سنوياً على السلاح. وينفقون 0.02% (أي اثنان في الألف) من الدخل القومي العربي على البحث العلمي، أي أقل 25 مرة مما تنفقه إسرائيل في هذا الميدان، وأقل 15 مرة من المتوسط العالمي البالغ 1.4% وتسجل إسرائيل 600 براءة اختراع سنوياً على الأقل معظمها في حقول الطب والدواء والري والتقنيات العالية(high tech)، بينما لا يسجل العرب أكثر من 24 براءة اختراع في السنة. وهذا الأمر ليس مدعاة للاستغراب؛ فقد هاجر من العالم العربي بين سنة 1950 وسنة 2000 نحو 700 ألف تقني ومتخصص وعالم الى الغرب الأوروبي والأميركي، ثم تزايدت معدلات الهجرة سنة 2000 فصاعداً.

لنقارن ونتأمل

إن نصيب الفرد العربي من التعليم يساوي قرابة 340 دولاراً في السنة، بينما نصيب الفرد الإسرائيلي هو 3 آلاف دولار في السنة. ولدينا 395 جامعة ومع ذلك بيننا 70 مليون أمي. أما في إسرائيل فالأمية تساوي الصفر.

والأمي اليوم ليس من لا يقرأ ولا يكتب، بل من لا يستطيع استخدام الكومبيوتر ووسائل المعرفة الحديثة. هذا هو التعريف الياباني للأمي. وإذا كان هذا التعريف صحيحاً، ولو نسبياً فإن الأمية في العالم العربي سترتفع الى نحو 95%. وبما أن القراءة، والثقافة استطراداً، هي أحد المنتجات الراقية للتعليم، فإن في الإمكان أن نضع أصابعنا، بعد هذا العرض، على بعض الأماكن الظليلة في هذه المشكلة.

إن أحد الأسباب الأكثر عمقاً لمشكلة القراءة في العالم العربي هوغياب المشاريع النهضوية الكبرى وانحسار دور الحركات السياسية الجذرية. ففي إحدى الفترات، وبالتحديد في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كان الفكر القومي العربي يدق الابواب جميعاً، ويبشر بالخلاص من الجور التركي، ويعد العرب بدولة حرة ومتحدة ومنيعة. وحتى بعد هزيمة ملك سورية، فيصل الأول، غداة معركة ميسلون في سنة 1920، تحفّز الفكر القومي للرد على تجزئة سايكس – بيكو وعلى هذه الهزيمة معاً. وفي هذا المضمار أينع الفكر القومي وأثمر مفاهيم شتى ومؤلفات كثيرة في نطاق أفكاره. وعلى هذا الغرار امتلأت المكتبة العربية بمئات المؤلفات عن الاشتراكية وعن المساواة والعدالة الاجتماعية إبان حقبة صعود اليسار العربي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. ثم جاءت أفكار التحرر الوطني ومقولات الكفاح المسلح مع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في سنة 1965 لتطلق في سماء المنطقة العربية سجالات فكرية غنية وعميقة وذات تأثير ثقافي طاغ.

قصارى القول إن القراءة مرتبطة، الى حد بعيد، بالتحولات السياسية والاجتماعية الحاسمة. فهزيمة 1976 أطلقت موجة من النقد الراديكالي لدى الجيل الذي ولد في معمعان النكبة الفلسطينية في سنة 1948، والذي طالما تطلع الى تغيير الواقع السياسي ثأراً للكرامة العربية المغدورة. واللافت أن شبه الانتصار في حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973 أو على الأقل عدم الهزيمة الماحقة على غرار هزيمة 1967، لم يُطلق أي نهوض جدي في العالم العربي، بل شاعت حال من الركود الفكري عدا بعض الاستثناءات هنا وهناك.

أنين الثقافة

في أوائل القرن العشرين، حينما كان العرب يَعُدّون نحو خمسين مليونا، ولدينا ثلاث جامعات فقط، كان الكتاب الجيد يُطبع منه ثلاثة آلاف نسخة. واليوم، بعد نحو مئة سنة، وبعدما صار العرب أكثر من 300 مليون نسمة، ولدينا 395 جامعة، فإن الكتاب الرائج هو الذي يُطبع منه ثلاثة آلاف نسخة بينما الكتاب العادي يُطبع منه 1500 نسخة أو أقل. وينشر العرب 28 عنواناً لكل مليون عربي مقارنة بستمئة كتاب لكل مليون أوروبي و 215 كتاباً لكل مليون أميركي، وتصدر في البلاد العربية 267 صحيفة يومية و 507 مجلات أسبوعية. وهذا أقل مما يصدر في ولاية أميركية واحدة.

في القرن العشرين كانت المفردات التي تلهب خيال الشبان العرب هي: النهضة، التقدم، الحرية الديمقراطية، الوحدة، الاستقلال، العلم، التنمية، الدستور، القانون، الدولة الحديثة، العدالة الاجتماعية، مقاومة الاستعمار.. الـخ. أما اليوم فقد عادت بعض المفاهيم الى الانتعاش مثل: الحاكمية، الجاهلية، الهجرة، الكفار، الجهاد، الحلال والحرام.. وغيرها، وعاودت أفكار التبديع والتفسيق والتكفير حيويتها ثانية. ويعكس هذا الأمر انحداراً مروّعاً الى الخلف، أي نحو إعادة الاعتبار الى الفكر التكفيري الذي دشنه الأزارقة الخوارج منذ نحو 1400 عام، بدلاً من التقدم الى الأمام.