خاص مجلة القدس/ الاصدار السنوي العدد 344 كانون الثاني 2018
اعداد: خالد غنام أبو عدنان

الأخ الشهيد ياسر عرفات كان يرفض أن يعيش في عالم فصّله له خصومه، عندما نزل مع أول دورية لمهاجمة العدو في 1/1/1965 أمسك بزمام المبادرة فقط ليعلّم الجميع أن من هنا يجب أن ينطلق العمل الفلسطيني، وليؤكد لكل من يعارض بداية الانطلاقة أن هذه البداية وأن الكفاح المسلح هو الوسيلة مهما بدأ بسيطاً. (هاني الحسن)


إن هول النكبة خلق حالة غضب شديد عند الشباب الفلسطينيين جعلهم يستعجلون الانتقام من العدو الصهيوني، فقاموا بأعمال فردية تفتقر لاحترافية القتال، فهي أشبه بفورة الغضب التي تفقد الإنسان القدرة على التفكير والتركيز، إلا أن تراكم الإخفاقات علّمهم أن يتريثوا ولا يستعجلوا فبدأوا بتغيير أسلوب عملهم، فانسحبت الغالبية العظمى منهم إلى أحضان الأحزاب القومية والدينية باحثة عن حاضن أكبر من الفلسطينيين أنفسهم، بينما اتجهت قلة قليلة إلى بناء خلايا عسكرية سرية شكلت بداية العمل الجماعي الفلسطيني.
فقد ذكر صقر أبو فخر: في الخمسينات راح عدد من الشبان الفلسطينيين المفعمين بالحماسة والوطنية يؤسس المجموعات التمهيدية القتالية، فأسس خليل الوزير في غزة كتيبة الحق، وشارك خالد اليشرطي في لبنان في تأسيس جبهة التحرير الفلسطينية، وأسس صلاح خلف في غزة أيضاً جبهة الكفاح المسلح الثورية، وأسس زكريا عبد الرحيم في لبنان المنظمة الفلسطينية الثورية، وأسس صبحي ياسين منظمة طلائع الفداء القومي لتحرير فلسطين، وظهرت العديد من المجموعات القتالية التي لم تستمر طويلاً مثل الجبهة الثورية الفلسطينية التي أنشأها ضباط فلسطينيون في سورية أمثال مجاهد سمعان وصلاح المعاني ومحمود عزام ووليد سعد الدين، وأسس عدد من الفلسطينيين في جامعة دمشق منظمة أبناء فلسطين ومنظمة عرب فلسطين، ومن بين هؤلاء عبد الله الدنان ومحمود عباس ومحمود المغربي وعمر الحوراني وهايل عبد الحميد وأنيس الخطيب وظافر الخضراء ونامق أبو عابد، وانضم معظمهم، في ما بعد، إلى حركة فتح.
أما د. عصام عدوان فكتب: أما على صعيد التنظيمات الفلسطينية، لم تكن فتح أول من بدأ العمل المسلح في فلسطين بعد نكبة 1948، فقد مارسته الهيئة العربية العليا، وجماعة الإخوان المسلمين منذ 1949-1956، وجبهة التحرير الفلسطينية التي يتزعمها أحمد جبريل والتي تأسست في عام 1959، فقد مارست العمل الفدائي من خلال الفرق العسكرية الثلاث التي تألفت منها، وأما أول اشتباك مسلح لمنظمة شباب الثأر وهي الفرع الفلسطيني لحركة القوميين العرب مع قوات الاحتلال كان بذكرى وعد بلفور يوم 2/11/1964 واستشهد فيها الشهيد خالد الحاج.
وبعد قراءة موسعة لمذكرات رؤساء (هتشنسون الأمريكي، بيرنز الكندي، فون هورن السويدي) فرق حفظ السلام على الحدود العربية الإسرائيلية استنتج ديفيد هيرست: يتفق الجنرلات على أمر واحد أن الجيش الإسرائيلي لم يلتزم ليوم واحد باتفاقيات الهدنة، بل أنه كان يعتدي على الجوار العربي بطريقة همجية ومسعورة، وعندما نقوم بمساءلتهم عن مخالفة لاتفاقية الهدنة كانوا يتهربون باستخدام الغش والخداع وأحياناً كثيرة يلوموننا لأننا نسألهم عن مقتل بدو إرهابيين.
ويذكر كذلك ديفيد هيرست: أن عمليات تسلل الفلسطينيين لم تتوقف بعد النكبة، لكنها كانت أعمالا فردية، أو لمجموعات صغيرة لا تتعدى الخلية الواحدة، لكن هذه الأعمال لم تكن بأي شكل من الأشكال برعاية إحدى الحكومات العربية، ولم يسمع العالم بكلمة فدائيين إلا بعدما عقد جمال عبد الناصر صفقة السلاح مع الاتحاد السوفيتي في آب عام 1955، وكانت عملية الفدائيين كبيرة حيث توغلوا 27 ميلا بالعمق الإسرائيلي واستمروا لمدة أسبوع كامل يقاتلون بجسارة فقتلوا أكثر من خمسة جنود وعشرة مدنيين وقاموا بتدمير شامل للمنطقة.
كما يذكر أبو داود: الحقيقة إن الظروف لم تكن مؤاتية لمشاريعنا في تلك الحقبة (1960). كان هناك أولا عدد كبير من المجموعات المسلحة السرية الصغيرة التي تسعى مثلنا إلى تجنيد العناصر المقاتلة في الضفة الغربية، وكانت هذه المجموعات تحمل أسماء مثل الفدائيين الفلسطينيين العرب، المنظمة العسكرية الفلسطينية، الحركة الثورية الفلسطينية، الجبهة الوطنية لتحرير فلسطين الخ ... أما العقبة الأخرى أننا لا نملك أي خبرة عسكرية إذ إن التجنيد الإجباري لم يكن معمولاً به في الأردن، وأني لم أستعمل سلاحاً منذ سن الحادي عشر! ويضيف أبو داود: في غضون ذلك كانت فتح تكبر، وقد ساهمت سلسلة أحداث في تعزيز صفوفها، وأول هذه الأحداث جاء في أيلول/ سبتمبر 1961 مع الانفصال المفاجئ بين مصر وسوريا، لأن آلاف الفلسطينيين شعروا بالإحباط من جراء انهيار المثل الأعلى الذي بنوا عليه أملهم في التحرير، فتحول بعضهم فوراً صوب الاتجاه المعاكس إذ استنتجوا أن انتظار الوحدة العربية مضيعة للوقت.
ويؤرخ صلاح خلف الانطلاقة فيقول: وعرفت فتح أول انطلاقة لها اعتبارا من عام 1961. وثمة حدثان ساهما في توسيع صفوف الحركة. كان الأول هو نجاحنا في توحيد معظم الخمس وثلاثين أو الأربعين منظمة فلسطينية من تلك التي كانت قد نشأت بصورة عفوية في الكويت. صحيح أنه لم يكن لكثير منها سوى وجود كسيح ولا تضم الواحدة سوى مجموعة أو مجموعتين من الشباب المتحمس. إلا أنه يظل صحيحاً كذلك إن دخولها إلى فتح وضع حدا لتبعثر الإرادات الطيبة، كما كان يحمل إلينا في بعض الحالات عناصر ديناميكية وكفؤة. أما ما كان أهم من ذلك فهو الاندماج الذي تفاوضنا عليه مع المنظمة التي كان يذكيها في قطر وفي العربية السعودية، ثلاثة رجال سيلعبون بعد ذلك أدوارا من المقام الأول: هم أبو يوسف النجار وكمال عدوان «اللذان استشهدا على يد مجموعة مغاوير إسرائيلية في بيروت في شهر نيسان إبريل 1973» وأبو مازن، وهو حاليا عضو اللجنة المركزية في فتح. كانت أفكارهم متقاربة جداً مع أفكارنا، فكان أن تم اتفاق الوحدة بيننا دون صعوبات. كما كان بينهم الشهيد الأول للجنة المركزية المهندس عبد الفتاح حمود (أبو صلاح). والحقيقة هي أن انفراط الجمهورية العربية المتحدة في أيلول سبتمبر 1961، سجل بداية استمالتنا إلى حركة جماهيرية.
كانت الخلايا الأولى لحركة فتح مشتتة مناطقيا لدرجة التنافر المنطقي، كما أن أفكارها كانت تتحرك بسرعة الأحداث بالمنطقة العربية، وهي المعروفة بأنها تتحرك بشكل مستمر مما يدفع الحكومات لتغيير السياسات والتحالفات وأيضاً القيادات مما يعني أن الثابت في المنطقة العربية هو الرمال المتحركة تحت كل مكوناتها التي تعيش حالة فزع دائما وتنتظر كارثة قادمة مع أول عاصفة خاطفة. حديث الانقلابات وخلع الملوك والتقارب والتنافر مع الدول العظمى، فشل الوحدة بين مصر وسوريا وتشكيل حركة عدم الانحياز، السجون العربية تمتلئ بأعضاء الإخوان المسلمين والشيوعيين، دعوات لحمل السلاح ضد الحكومات وأخرى لمساعدة الحكومات، فلا غرابة أن تجد خلافات وخصومات داخلية في كل التنظيمات الثورية وحتى الأحزاب الحاكمة، وبالتأكيد حركة فتح ليست استثناء.
فقد ذكر د. عصام عدوان: إن أقدم تاريخ ذُكر لبدء مناقشات قيادة فتح حول موضوع الانطلاقة كان في حزيران 1964، ويبدو أن المناقشات استمرت لفترة طويلة حتى كانون أول 1964، وتعددت أماكن انعقادها، فاللجنة المركزية العليا للحركة مقرها الكويت، والمجلس العسكري مقره دمشق، وأما الاجتماع في مركز سلوى على الحدود بين قطر والسعودية، فهو مكان الاجتماع المفضّل بين تنظيم قطر وتنظيم السعودية، حيث قرر الفريقان أن يكون تاريخ الانطلاقة 1/1/1965.
أما كمال عدوان فقد ذكر ما يلي: أخذت الحركة تعد نفسها حسب خطة مدروسة، حتى اعترضها قيام منظمة التحرير الفلسطينية والإعلان عن إنشاء جيش التحرير الفلسطيني سنة 1964، وكانت هذه العقبة حرفت مسار حركة فتح عن الخطة المرسومة إلى خطة جديدة تقتضي الإسراع بإعلان الثورة المسلحة وتغيير الخطة من مرحلة التنظيم من أجل الثورة إلى مرحلة التنظيم من خلال الثورة. فبعد إطلاعها على كافة المصادر ذات الصلة، تستنتج هالة العوري أن قرار القمة العربية في الإسكندرية عام 1964، الذي أسفر عن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري الذي تربطه صلات وثيقة بمعظم الأنظمة العربية، بقصد احتواء الخلافات العربية/العربية، وتجنبا للانجرار إلى حرب غير متكافئة مع إسرائيل من قبل عناصر غير مسؤولة. وهذا ما كان يكرره اللواء فؤاد شهاب بالمؤتمرات العربية: كيف يمكن السيطرة على الفلسطينيين المكدسين في المخيمات وهم يستمعون إلى إذاعة القاهرة وهي تعدهم يوميا بالعودة إلى بلادهم. بينما كان بن غوريون يمتنع عن قبول أي مبادرة سلام في بداية الستينات وكان يكرر مقولته: لست في عجلة من أمري، أستطيع الانتظار لعشر سنوات أخرى، فليست هناك أية ضغوط علينا. وهذا سبب غضب النخب الفلسطينية بصوت عالٍ ضد الأنظمة العربية وكانوا يطالبون الفلسطينيين بالتحرك بشكل فردي مثل ناجي العلي فقد ذكر: من مصلحة اللاجئين وواجبهم، أن يشقوا كل الطرق التي توصلهم إلى الكفاح المسلح، حيث آن الأوان لدخول مرحلة جديدة في مواجهة المشروع الصهيوني. إن الفقراء أبناء المخيمات الغلابة المحرومين هم القوة الأساسية التي يجب الاعتماد عليها في توجهاتنا للمرحلة القادمة، فلا أحد هنا يحتاج إلى إقناع بأن حمل السلاح في وجه إسرائيل ليس هو الوسيلة الأمثل لاسترداد ما سلب منا، لماذا التباطؤ؟
أما صقر أبو فخر فقد ذكر : وفي 28/5/1964 افتتح الملك حسين أعمال المؤتمر الفلسطيني الأول في فندق انتر كونتيننتال في القدس، وبلغ عدد أعضاء المؤتمر 419 عضواً يمثلون الشعب الفلسطيني بمعظم قطاعاته. وكان بين الحاضرين ياسر عرفات وخليل الوزير وكمال عدوان وخالد الحسن ومحمد يوسف النجار، وأصدر المؤتمر الميثاق القومي الفلسطيني والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أعلن أحمد الشقيري قيامها في 28/5/1964. وعندما أقر مؤتمر القمة العربية الثاني المنعقد في 5/9/1964 الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطيينية وجيش التحرير الفلسطيني، بدأت الدعاية المصرية تركز على نشر صور الجنود الفلسطينيين وهم يتدربون على السلاح بثيابهم المرقطة. وكان لهذا المشهد تأثير قوي في صفوف الشبان الفلسطينيين، وتخوفت فتح من أن يكون قيام منظمة التحرير الفلسطينية استباقاً للتحول الثوري الذي بدأ يتصاعد في صفوف الفلسطينيين، وارتابت في تحويل المنظمة إلى أداة رسمية عربية فوقية، وتحويل جيش التحرير الفلسطيني لمجرد جناح عسكري في الجيوش العربية، لذلك سارعت فتح إلى دراسة إمكان شن الكفاح المسلح عبر حدود الهدنة العربية، ومنذ البداية ظهر ضمن حركة فتح تياران، الأول: كان يرى ضرورة التروي والاستعداد والتهيئة قبل بدء العمليات العسكرية، وسمي أصحاب هذا التيار بالعقلانيين أو العقلاء، وكان منهم خالد الحسن وعادل عبد الكريم وعبد الله الدنان.وأما الثاني: فقد كان يرى أن من الضروري شن الكفاح المسلح فوراً، ودُعيَ أصحاب هذا التيار بالمجانين، وكان منهم ياسر عرفات وخليل الوزير، وتغلب المجانين على العقلانيين، وأُقر إعلان بيان العمليات المرتقبة باسم قوات العاصفة.
وفي نفس الفترة تقريبا ذكر الرفيق جورج حبش: قبل ذلك كنا بدأنا بتعيين قيادات قطرية مشتركة للحركة، وكانت قيادة القطر الفلسطيني مؤلفة من الإخوة د. وديع حداد و د. أسامة النقيب ورفعت سرحان وزاهي قمحاوي. ألفنا في بيروت لجنة فكرية من الأستاذين برهان الدجاني ووليد الخالدي وآخرين، بدأنا التفكير بالعمل المسلح، وسقط أول شهيد لنا وهو خالد أبو عيشة، وقد طرحت هذا الموضوع على الرئيس عبد الناصر في أول لقاء معه سنة 1964.
وأضاف الرفيق جورج حبش: في بداية اللقاء مع جمال عبد الناصر سألني عن الوضع في سورية وكانت المرة الأولى التي أتلمس فيها ارتباطه العاطفي المذهل والواضح بسورية، ورويت له بكل أمانة ما سمعته عنه في الفترة التي اختفيت فيها في سورية لدى عائلات ناصرية، وللمناسبة كنت انتقل من بيت إلى بيت وهذا جعلني أحيط بأكبر كمية من وجهات النظر في عبد الناصر ورأي السوريين فيه. كان في ذهني موضوعان أساسيان جاء هذا اللقاء مناسبة جيدة لأتحدث فيهما مع عبد الناصر، الأول يتعلق بإحياء الجماهير، والثاني بمسألة الكفاح المسلح في الجنوب العربي، وبالثورة المسلحة من أجل استرداد فلسطين. وأذكر أنه تحدث بحرارة عن الموضوعين وأبدى استعداده الكامل لأي مؤازرة بالنسبة إلى ما يتعلق بالجنوب العربي، أما موضوع فلسطين كبير ولا يجوز الحديث حوله بتبسيط، وردد خلال الحديث عبارة أن عدونا ليس إسرائيل وإنما أمريكا وعندما نريد الدخول في حرب يجب أن نتأكد سلفاً أننا ندخلها ضد أمريكا. واتفقنا على أنه لابد أن تقوم الثورة المسلحة ضد إسرائيل ذات يوم وأنه في انتظار ذلك من المناسب الإعداد لذلك اليوم.
وهذه التجاذبات العربية العربية تبقى مأزق القيادة الفلسطينية التي يطالبها كل نظام عربي بضرورة أن يكون الحليف هو وحده الحليف الوحيد للثورة الفلسطينية، وقد حمل هذه الأزمة الفكرية الأخ أبو جهاد معه للفيتنام ليبحث عن حل عملي لها، فقد ذكر الأخ خليل الوزير: أثناء زيارته للفيتنام عام 1963 سألت فان دونج رئيس وزراء فيتنام، كيف تمكنت فيتنام من أن تقيم علاقات متكافئة مع كل من الاتحاد السوفياتي والصين فقال لي: عندما أذهب إلى الصين أشكر الرفاق في الاتحاد السوفياتي أولاً ومن على أرض الصين، ثم أشكر الرفاق في الصين، وحين أذهب إلى موسكو أشكر الاتحاد السوفياتي، كما أني أكون واضحاً مع الطرفين.
وقد دوّن أبو الأديب في مذكراته: عندما عاد أعضاء القيادة إلى الكويت في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول سنة 1964 شعرت أنهم مختلفون، فقد تبنى ياسر عرفات وخليل الوزير ومحمد غنيم وآخرون ضرورة الانطلاق في 1/1/1965 بينما عارضهم عادل عبد الكريم وعبد الله الدنان وغيرهم، وكان المعارضون يمثلون أغلبية الثلثين. واشتد الخلاف في اللجنة المركزية في الكويت، فقررت هذه اللجنة تكليفي بصفتي قاضياً بالسفر إلى الأردن والضفة الغربية والقدس في أول عملية استقصائية أقدم على أثرها تقريراً يساعد اللجنة المركزية على اتخاذ القرار المناسب، وكان أبو عمار يعتقد أنني منحاز سلفاً إلى جانب عادل عبد الكريم، ولذلك أطلق عليّ لقب المفتش العام وأوعز للمحسوبين عليه في الأردن عدم التعاون معي.
أما أبو داود فقد ذكر الموضوع من زاوية بعيدة جداً حيث كتب: في خريف 1964 كان الوضع متأزماً بالعاصمة السعودية الرياض، فقد جرح الملك سعود وتحصن داخل القصر ومعه 1500 رجل من الحرس الملكي منتشرين بأسلحتهم حول سور القصر، لم يكن أحد يعرف ما يرمي إليه الملك، لكن الأمير سلطان وضع في المقابل القوات المسلحة في حالة استنفار، بينما قام شقيق آخر هو الأمير عبد الله قائد الحرس الوطني باستدعاء احتياطي الجيش الثاني في المملكة، والمؤلف من عناصر قبائل البدو... ولم يهدأ الوضع إلا بعد مبادرة الرئيس جمال عببد الناصر التي دعا فيها إلى ضرورة نبذ الخلافات الجانبية والوقوف معاً ضد عملية نهر الأردن التي ينوي ليفي أشكول الرئيس الإسرائيلي القيام بها، ومن أجل ذلك عبد الناصر نقل آلاف الجنود المصريين من اليمن إلى الأردن. وأضاف أبو داود: ما كدنا نجلس مع الأمير فيصل حتى فهمنا بسرعة أن مشروع منظمة التحرير هذا، على الأقل لأنه وضع تحت قيادة عبد الناصر، لا يمكن أن يحظى فعلاً برضاه. وبادرنا قائلاً، حتى قبل أن نتقدم منه بالطلب الذي يراودنا: أول ما عليكم أن تفعلوه، أنتم الفلسطينيين، هو أن تصنعوا مصيركم بأنفسكم. فوافقته قائلا، إذ كنت أقرب في جلستي إليه: بالتأكيد يا صاحب السمو، إنما كي نستطيع أن نصنع مصيرنا بأنفسنا، كما تنصحنا، يجب أن يتمكن الفلسطينيون المقيمون في المملكة من تلقي تدريب عسكري. فأجابني: راجع الأمير فهد وزير الداخلية في الموضوع، فهو سيدبر الأمر.
أما أبو الطيب فقد أورد ما يلي: شهدت تلك المرحلة قيام ياسر عرفات وبدعم من خليل الوزير بتنفيذ عملية مبكرة قرب بلدة السموع بمنطقة الخليل دون أن يتم الإعلان عنها موفياً بالعهد الذي قطعه على نفسه للبدء بالثورة قبل نهاية 1964، حيث كان أبو عمار وأبو جهاد يؤيدان وجهة النظر القائلة بأن الأمور ناضجة وأن الإسراع في البدء أفضل بكثير من الانتظار حتى فترات لاحقة. و أضاف أبو الطيب: قبل تنفيذ العملية بعشرة أيام حضر كل من ياسر عرفات ومحمد يوسف النجار معاً ولحق بهم خليل الوزير قادماً من الجزائر، وسليم الزعنون قادماً من الكويت، ونزلوا بفندق بارك جرت لقاءات سريعة مع الرموز القيادية لحركة فتح في الضفتين خلال هذه الأيام من هؤلاء الأخوة عبد الله جبر ومحمد غنيم وهاشم أبو سردانة وأحمد موسى الدلكي ورمضان البنا ومحمد أحمد ذياب وخليل علي عودة. وأعاد عرفات على مسامعهم ما ذكره لي وبحضور الأخوين خليل الوزير ومحمد يوسف النجار وما قررته فتح في لقائها بالكويت في 18/12/1964 من وجوب القيام بعمليات عسكرية موجعة للعدو داخل أرضنا المحتلة وللأسباب التي رأتها الأقلية.
إلا أن للرفيق صلاح صلاح قصة أخرى: بعد عودتي بأشهر قليلة إلى لبنان تم التحضير لعقد أول مؤتمر يضم مندوبين من مختلف المناطق التي يتواجد فيها فلسطينيون ناشطون في فرع حركة القوميين العرب في صيف 1964، وقرر تشكيل قيادة إقليم فلسطين بعضوية كل من وديع حداد، صبحي عودة، تيسير فقيه، أحمد اليماني، عبد الكريم حمد، ابراهيم الراهب، صباح ثابت، وداد قمري. وأهم قرارات المؤتمر هي البدء بالعمل التنفيذي داخل الأرض المحتلة استعدادا لبداية العمل المسلح، عن طريق بناء قواعد الارتكاز ورسم الخرائط وتخزين السلاح وتدريب الشباب. ويضيف الرفيق صلاح صلاح: سيبقى استشهاد خالد الحاج أبو عيشة مثيراً للجدل، لأن استشهاده كان إيذاناً بإطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، مصدر الجدل أن حركة فتح تقول إنها صاحبة الطلقة الأولى في الثورة، وذلك بتاريخ 1/1/1965، في حين أن النضال المسلح ضد إسرائيل بدأ قبل هذا التاريخ، استشهاد أبو عيشة أواخر عام 1964 في عملية داخل فلسطين يبين أن فرع فلسطين في حركة (القوميين العرب) بدأ قبل أن تعلن حركة فتح أو أي فصيل فلسطيني آخر عن وجوده وممارسته.
وإلا أن الأخ أبو الأديب سجّل ما يلي: عدت إلى عمان يوم 28/12/1964 وبدأت أكتب تقريري الذي انتهيت فيه إلى تأييد فكرة الأقلية التي تنادي بالانطلاقة وأن المال يأتي نتيجة لإعجاب الناس بها. وسمعت طرق الباب، وعندما قمت بفتحه فوجئت بالأخ محمد يوسف النجار يقف أمامي، وقال لي: هل توصلت لقرار؟ وعندما قرأ بعينيه ما انتهيت إليه انفرجت أساريره وقال هناك شخص يجب أن يراك ما دام تقريرك قد جاء لصالحه. واصطحبني إلى فندق فيلادلفيا، وهناك لمحت شخصاً بملابس باكستانية وغطاء رأس باكستاني، وعندما استدار نحوي فوجئت أنه ياسر عرفات فتعانقنا بعد أن قال له أبو يوسف النجار: أبو الأديب من صوبنا. فقال ياسر عرفات: لم أكن لأقابلك لو كان رأيك ضدنا لقد ظلمتك وقلت أنك من جماعة العقلانيين عادل وعبد الله، الحمد لله أنك من فريق المجانين. هل تقبل يا أبا الأديب أن يُقال عني وعن إخواني الذين سينطلقون ويتعرضون للموت بأنهم مجانين؟ وعندها قلت له: هناك شاعر لا أذكر اسمه قال بيتاً من الشعر " مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أعتابهم يسجد العقل". فقال لي: اكتب لي هذا البيت لأحفظه يا أبا الأديب، غير أنه لم يقم بحفظه، وكان في أكثر الأحيان يقول لي: اقرأ للحاضرين بيت المجانين!
كما ذكر الأخ أبو الأديب: وعندما سألته لماذا لم تنتظروا أن أعود إلى الكويت وأقدم تقريري؟ قال: بصراحة كنت أشك في تقريرك، ووصفتك بالمفتش العام بل أوعزت لمعاونيّ بألا يساعدونك في مهمتك ولكن الآن أنت حبيبي. وتدخل أبو يوسف النجار وقال: أنت تعرف ياسر عرفات بصلته محروقة وأنا انتدبت والأخ محمود عباس من تنظيم قطر كي أتوسط في الخلاف وقد هدانا الله إلى فكرة العاصفة، فإذا فشلت يكون ياسر عرفات هو السبب ويقتصر الفشل عليه وعلى الأقلية التي معه، وإن نجحت نقول في المستقبل أنها الجناح الضارب لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح. وأضاف: ولكن عادل عبد الكريم وعبد الله الدنان أصرا على عدم تسليم القيادة لياسر عرفات وقرروا أن تكون القيادة جماعية، والآن علينا أن نرتب الأمور بصفتنا القيادة الميدانية.
ويعتبر رأي د. غازي حسين أقسى ما يمكن أن يصف المرحلة بل أنه تحامل كبير لم تجرؤ الأنظمة العربية على قوله علانية فقد كتب: دارت الشبهات حول عرفات منذ نهاية عام 1964 وبداية عام 1965، حيث اتفقت الولايات المتحدة الأميركية وإسرئيل في تلك الفترة على الإطاحة بالرئيس جمال عبد الناصر للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية ووقف تطور البلدان العربية، وفرض السيطرة الأميركية على النفط العربي وتوطيد إسرائيل وتعزيز وجودها في المنطقة العربية، وذلك عن طريق إطلاق العنان لإسرائيل للقيام بعمل عسكري كبير. رفع عرفات في تلك الفترة شعار توريط البلدان العربية في حرب مع إسرائيل، وكان الرئيس جمال عبد الناصر يعارض اندلاع الحرب، لأن العرب لم يكونوا في وضع يؤهلهم للدفاع عن الحدود العربية. وكان الموقف العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص يقوم على عدم توريط القوات العربية في حرب مع العدو الصهيوني، لأن التوريط يقود إلى مخاطر وعواقب وخيمة. فهو يوفر للعدو الصهيوني الذريعة لمهاجمة البلدان العربية لتوسيع حدوده واحتلال القدس ووقف المد الوحدوي والتطور الاقتصادي في البلدان العربية، وبالتالي يقود إلى تحقيق الخطة التي اتفقت عليها الولايات المتحدة وإسرائيل وأطلقتا عليها اسم عملية اصطياد الديك الرومي.
وقد أورد ديفيد هيرست: أصبحت سورية منذ شباط عام 1966، عندما استولى جناح متطرف من حزب البعث الحاكم مقاليد الأمور فيها، يتبنى رسميا، مع ما يلزم من الحماسة الخطابية، فلسفة فتح التي تنادي بشن حرب تحرير شعبية، والتي كان جمال عبد الناصر ينتقد تهورهم ويقول: يقولون لي أخرج القوات الدولية. فلنفرض أننا أخرجناها. أليس من الضروري أن تكون لدينا خطة؟ إذا حدث اعتداء إسرائيلي على سورية فهل أهاجم أنا إسرائيل؟ إن هذا يعني أن إسرائيل هي التي تفرض المعركة علي. فهي تضرب جراراً أو جرارين لتفرض علي أن أتحرك. هل هذه الطريقة حكيمة؟ يجب أن نكون من يقرر المعركة.
أما ما حسمه الأخ صلاح خلف في تأريخ تلك المرحلة: وبرغم ضآلة الدعم الخارجي الذي كنا نتمتع به، فإن فتح زادت من قتاليتها وتماسكها فغداة عملية 31 كانون الأول ديسمبر 1964 زاد مناوئو الكفاح المسلح داخل القيادة أي «المتعقلون» من ضغوطهم بغرض تحييد «المغامرين» كما كانوا يصفوننا. فاستخدموا كافة الوسائل للبرهنة على أن مشروعنا قد أضر بالحركة. فإذا جرى توقيف مناضل في الأردن؟ إنا إذا لمسؤولون.. فاتهمتنا الصحافة بأننا عملاء وكالة الاستخبارات المركزية، (السي آي اي)؟ أنا إذا لم نعد الرأي العام كفاية لحرب العصابات التي شنيناها.. أو فشلت الغارة التي قام بها فدائيونا؟ أنها خطيئتنا لأننا/ في رأيهم، لم نجند عسكريين محترفين.. وهل الأنظمة العربية تحمل علينا وتشنع؟ أن في ذلك لدليلً على أن مشروعنا سابق لأوانه.
كان الجدال في أوجه حين أهوى مناوئونا بأقنعتهم وكشفوها بمناسبة اتهام ياسر عرفات وصحبه بقتل ضابطي العاصفة. فقد ارتكب «المتعقلون» خطأ التحلل من رفاقنا المسجونين., ثم أن الإفراج عن هؤلاء الأخيرين مبرئين من كل اتهام، أعلن نهاية رفاقنا هؤلاء الذين لم يلبثوا بعد ذلك بقليل أن انسحبوا من قيادة فتح التي عادت متجانسة.
ومنذ ذلك الحين، بتنا قادرين على مواصلة وتطوير حرب العصابات ومن عام 1965 حتى عشية حرب الأيام الستة، قام فدائيونا بحوالي مائتي غارة تقريبا. ولا ريب في أن معظمها جاء على نطاق متواضع بحيث أنه لم يكن يعرض أمن واستقرار الدولة الصهيونية للخطر، ولكن هذه العمليات ساهمت في زيادة التوتر بين إسرائيل والبلدان العربية التي كانت إسرائيل ويا لسخرية القدر تتهمها بتشجيع ودعم الحركة الفدائية؟
وهذا ما أوصل د. عصام عدوان للاستنتاج التالي: في الواقع تعرضت حركة فتح لأزمة كبيرة عند اتخاذ القرار بالانطلاقة في عام 1964 وحجة المعارضين القوية هي ضرورة استكمال الاستعداد وبناء التنظيم القوي ماديا وبشريا، بينما حدث خلاف كبير، داخل اللجنة المركزية العليا للحركة وداخل قيادات الأقاليم سنة 1964 حول التعجيل بالانطلاقة أو الترتيب لاستكمال الاستعدادات، نجد أن فتح تبرر أسباب تأخر الانطلاقة لانشغال الأمة العربية في دعم ثورة الجزائر، حيث رأت فتح ألا تشغل الأمة في ثورتين كبيرتين. وأن مؤتمري القمة العربية الأول والثاني، جعلا فتح تشعر بأن الأمة العربية في وضع يسمح لها برفد ودعم القوى الثورية لعرب فلسطين، وتذكر أم جهاد سبباً ثالثاً زهز إعلان عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في أيار 1964 جعل فتح تنتظر مساعي المنظمة وإمكانية التعاون معها.
وبطريقة أكثر وضوحا كتب ماجد كيّالي: كان رد حركة فتح على دعاة التحرير طريق الوحدة وإتهامها بالقطرية، باعتبارها أن النضال القومي لتحقيق الأهداف القومية لا يتم إلا من خلال الواقع القطري، إن ممارسة الانسان العربي لنضاله الثوري من خلال قطره الذي يعيش فيه يزيده عطاء وقدرة ونموا في الوعي، وعليه فإن فتح استنتجت بأن النضال القطري الفلسطيني المسلح هو نقطة البداية في تصفية الاحتلال الصهيوني. إن هذا القول يتماشّى مع كون الشعب الفلسطيني صاحب الدور الطليعي في معركة فلسطين، وإن اضطلاع الشعب الفلسطيني بدوره الطليعي بشكل إرادي حر سيجعل الأمة العربية تستيقظ وتعبئ جهودها، كذلك رأت فتح بأن العمل على إبراز الشخصية الفلسطينية بمحتواها النضالي الثوري في الحقل الدولي لا يتعارض ولا يتناقض مع الارتباط المصيري بين الأمة العربية والشعب الفلسطيني.
وإن كانت حرب الفدائية لم تتوقف طيلة الفترة ما بين النكبة والنكسة، على اعتبار أنها لا تحتاج لاحترافية قتالية، لكن كانت تشكل العنوان الكبير للبطولة والشجاعة أو كما قال الأخ خليل الوزير: أن البطل الفلسطيني هو الفدائي ابن الشعب، وهو ليس بالضرورة عسكري محترف أو قائد كبير، إنه كل الشعب بفئاته العمرية، وطبقاته وشرائحة الاجتماعية كانت هذه هي الدعوة التي بدأت مع فتح بسيطة للغاية وتحولت مع الأيام وتراكم التجربة والخبرة إلى نظرية عامة في الصراع مع العدو. كما أن الأخ صلاح خلف شرح أهدافها بعيدة المدى: كنا ندرك أن ضرب جسر أو ضرب عبّارة لا يمكن أن يكون حاسماً في التحرير، لكن كلنا ندرك أيضاً أن ضرب العبّارة ممكن أن يأتي بعشرة شباب آخرين ينضمون لحركة فتح.
لذا يكون تدوين د. رشيدة مهران توثيقا مهماً: سألته (الأخ أبو عمار) ألم تفكر أن تلتحق بالكلية الحربية؟ قال: أنا كنت قد انهيت دورة ضباط الاحتياط وهذا غير الدورات التي كنت قد اجتزتها قبل التحاقي بجيش الجهاد المقدس الفلسطيني، لقد تلقيت تدريبي على أيدي بعض الضباط والخبراء والأصدقاء الذين التحقوا بصفوف المجاهدين الفلسطينيين، ويواصل محدثي كلامه: بعد ذلك استطعنا أن نتصل بمختلف القيادات الفلسطينية في أماكن تواجدها خلال النشاطات الطلابية للشباب الفلسطيني، وتشكلت أول نواة فلسطينية في عام 1954 في غزة تحارب العدو الإسرائيلي وكان فيها أخي خليل الوزير.
إلا أن صموئيل كانز يؤرخ بداية حرب العصابات في فلسطين: أسس أحمد جبريل المنظمة الفدائية السرية المسماة جبهة تحرير فلسطين مع علي بوشناق وفضل شكري شرورو وأحمد زعرور وطاهر دبلان، وكانت نشاطات الجبهة بسيطة تقتصر على إلصاق المنشورات على أعمدة وجدران الشوارع إعلاناً ببدء الحرب المقدسة ضد العدو الصهيوني وفي النهار كانوا يقومون بتجنيد الطلبة الفلسطينيين من جامعة القاهرة كجنود للكفاح المسلح المقدس، وكانت سميرة شقيقة جبريل المعروفة باسمها الحركي أم فراس قائدة القطاع النسائي في جبهة تحرير فلسطين. واستناداً إلى مصادر الجبهة الشعبية – القيادة العامة – كان هدف جبهة تحرير فلسطين آنذاك هو شن حرب عصابات ضد إسرائيل.
ويلفت الانتباه الأخ أبو داود: وفي منتصف تشرين ثاني/ نوفمبر 1964 أثار حماسي عملية ضخمة قام بها رجال كوماندوس فيتناميون من الفيتكونغ ضد قاعدة جوية أميركية في ضواحي سايغون، وكان لهذه الغارة الجريئة التي دمرت فيها عدة طائرات وقع الصاعقة على الأميركيين، بل أنها صعقت الاتحاد السوفيتي الذي بات لا يسيطر على أحداث الفيتنام التي باتت تستقل ذاتيا بين الجناح السياسي المتنقل بين موسكو وبكين بينما الجناح العسكري على اتصال مع الثوار في أمريكا اللاتينية. إن رجال الفيتكونغ غيروا كل شيء، فمفهوم حرب العصابات أصبح قابلاً للتطبيق في الفيتنام، لهذا فالحجج التي كنت أقدمها للاستعاضة بحرب العصابات عن الخطط التقليدية لمعارك منظمة تنوي الجيوش العربية مواجهة إسرائيل بها بشكل عام. ولم أتورع عن المناداة بذلك بصوت عال خلال الاجتماعات مع مواطني، ولكن لا يبدو من الحكمة القيام بذلك في بلد مثل السعودية، بات يعتبر أحد أفضل حلفاء أميركا في المنطقة، ولا شك أنني لم أتنبه تماما إلى أنه يمكن أن يكون للجدران آذان، ولا إلى المزيد من التشدد الذي تبع خلع الملك سعود.
أما في حركة فتح فقد سجّل محمد حمزة بداية تشكيل المجموعات العسكرية المدربة في أكاديمية متخصصة فذكر: كان أبو جهاد قد حدثنا مطولاً عن مرحلة الإعداد العسكري وتجربة التدريب على السلاح في الجزائر التي بدأت أولاً بشكل فردي ثم مجموعات صغيرة إلى أن وصلت أول دورة عسكرية كبيرة في صيف عام 1964 وبحضور ضيف شرف الدورة المناضل العالمي تشي جيفارا، وكانت الدورة تضم بين صفوفها 97 شاباً من شباب تنظيم حركة فتح في الجزائر في معسكر بوغار واستمرت 50 يوما، تعلموا فيها فنون حرب الغوار الكوبية وحرب الفدائيين الجزائرية وحرب العصابات الفيتنامية، وكان بين المتدربين قادة فتحاويون كبار أمثال الشهداء أبو صبري، وأبو علي أياد ومنهل شديد ووديع عبد اللطيف ومحمود الهمشري.
وهذا ما استنتجه الأخ ماجد كيّالي: كانت رؤية حركة فتح للكفاح المسلح الفلسطيني تتركز على أنه بمثابة سيرورة متواصلة من ثلاث مراحل رئيسة هي: مرحلة العمل الفدائي، ومرحلة حرب العصابات، ومرحلة الحرب الشعبية، ففي المرحلة الأولى ستعتمد حرب الفدائيين استراتيجية غير مباشرة، تستهدف إنهاك العدو واستنزاف كل مقدراته دون انقطاع، وفي المرحلة الثانية ستكون حرب العصابات حربا تقوم بها القلة معتمدة على مساندة الكثرة يتم فيها تجنب خوض معارك المواجهة والمعارك الواسعة، أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي مرحلة حرب التحرير الشعبية تمهيداً لتصعيد المعركة حتى المواجهة التامة والاستمرار بالثورة حتى النصر.
إن فكرة فتح الأساسية هي أن تبدأ بالفعل وأن تطابق أقوالك بأفعالك، ومهما كان الفعل صغيرا فهو يتراكم مثل كرات الثلج التي تتدرج بفوضى كارثية، لم يسجل المؤرخون أن فتح ابتكرت حرب الفدائية أو أنها الرائدة في حرب العصابات أو أنها أول من أطلق رصاصة، فهذه الأمور مؤرخة بأسماء تنظيمات أخرى ولها جذور ضاربة في عمق الوجع الفلسطيني الذي بدأ بقارعة الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية منذ العشرينات من القرن المنصرم، لكن حركة فتح هي جنون حب الوطن الذي يخرج فينيقاً ملتهباً من قمقم الرماد، هي التي تسحب اليأس من النفوس وتمنح الشعب الفلسيطني ومضات تحفيزية ليستمر بالنضال حتى دحر الاحتلال عن وطنه، الفكرة التحريضية لحركة فتح تتماشى مع إرادة التحدي في الشباب الفلسطيني الذي يواجه الموت باسما رافضا الخنوع والذل، بل إن الكرامة الانسانية هي أغلى ما يملكه الفدائي الفلسطيني، لقد صنعت فتح بتاريخها المديد الطريقة التمردية في الثورة، فكلما حوصرت القيادة الفلسطينية أو سقط الشعب الفلسطيني في بئر اليأس يتم انتشاله سريعاً بمبادرات شبابية مجنونة، نعم مجنونة وكل الجنون يصفو به الفتحاوي الذي يرفض المنطق إن لم يكن عادلاً، ويرفض الواقع إن كان ظالماً، هذا التحدي بين النفس والذات يجرد الانسان من خوفه ويقف عاريا أمام مسؤولياته التي يجب أن يقوم بها مهما كان الثمن.
حب الوطن جنون الفتح المشروع ومن أجله جاءت انطلاقة حركة فتح جنونا عاصفا لا يمكن أن تسيطر عليه الأنظمة العربية أو القيادة الفلسطينية أو حتى حركة فتح نفسها، إنها جنون تطبيق الفكرة ببساطتها وجنون الاستمرارية بجبروتها، فكم يكون الجنون جبارا عندما يعلن أن أول ما يجب أن يهزم هو العقل إذا كان يعني الاستسلام، فبدون سلاح يبقى النضال وتستمر المعركة، لأن سر الفتح أنها تحدي الجنون في زمن الحسابات الرقمية، تبقى الحركات العشوائية غير متوقعة وصعبة الحساب، كيف يبدأ انفجار الغضب الفلسطيني، يبدأ بالسؤال المستمر عبر الأجيال أين الفدائي القادم، أين من يعلن أنه سيحطم قانون الصمت ويكسر حواجز العجز ليقلب حسابات المعركة لتبدأ مرحلة جديدة، وهذا الفدائي لن يفعل الشيء الكثير فقد يرمي حجراً أو يطلق رصاصة لكن لهذا الفدائي بركة إيقاظ شعب يترقب ويستعد لمواجهة شاملة من غزة للخليل للقدس ونابلس والناصرة حتى تصل إلى الوحدات واليرموك وعين الحلوة، معلنا أن عدوى الجنون تصل إلى كل فلسطيني ولكل إنسان حر يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية.