قامت الدول عبر التاريخ لتلبية حاجة إنسانية لمجموعة بشرية سواء مكونة من أمَّة واحدة أو من خليط من الأمم تعيش على بقعة واحدة (إقليم) وتشترك في أهداف واحدة أساسها توفير الأمن وتوفير الرفاه (أي الاقتصاد)، وكما أطلق على الدولة الحديثة مفهوم الدولة الأمة، وشيوع مبدأ حق تقرير المصير للأمم والشعوب بعد الثورة الفرنسية وبعدها الأمريكية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وقد مهد لكل ذلك أفكار الفلاسفة البريطانيين مثل توماس هوبز والفرنسيين جان جاك روسو ومنتسيكيو والألماني كانتْ .. وغيرهم، ما أدى إلى تفكيك العديد من الإمبراطوريات وقيام الدول الحديثة ومنها الدول الحديثة الاستقلال في أمريكا وفي إفريقيا وآسيا بعد انقشاع الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، من هنا ندرك القيمة الأخلاقية والقانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والثقافية لنشأة الدول وتطورها، على أساس تحقيق الأهداف والغايات السامية للفرد وللمجموعة البشرية التي ينتمي لها هذا الفرد، وهنا يتبلور مفهومي الوطن والمواطنة، ومفهوم الدولة الوطنية أو الدولة القومية، فتقوم العلاقة بين الفرد والدولة على مبدأين أساسيين:

الأول: أن مواطني أي دولة متساوون في الحقوق والواجبات.

ثانيًا: أن العلاقة بين الفرد والدولة تقوم على أساس المواطنة، حتَّى تتحقق المساواة بين المواطنين، وليس على أساس آخر من الجنس أو اللون أو الدين.

في هذه الدول يصبح واجب الالتزام بالقوانين التي تسنَّها الدولة عبر هيئاتها التشريعية واجبة الالتزام بها والتنفيذ والامتثال لها لأنَّها غايتها وهدفها الأول هو تحقيق الأمن والاستقرار للفرد (المواطن) وللجماعة (الشَّعب) والهدف الثاني هو تحقيق التنمية والرفاه الاقتصادي أيضاً للفرد (المواطن) وللجماعة (الشَّعب)، وهنا نأتي على ذكر الآية الكريمة (فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) سورة قريش، من أجل أن ندرك أهمية الالتزام بتنفيذ القوانين والتشريعات التي تنظم حياة الفرد والمجتمع داخل حدود الدولة حتَّى تتحقق الغاية من نشأة الدول وقيامها.

هنا نعود إلى السؤال الذي هو عنوان مقالتنا، هل هناك حاجة لدولة يهودية ؟!

الجواب قطعاً بالنفي، لأنَّ اليهودية ديانة، شأنها شأن أي ديانة أخرى يعتنقها أناس أفراداً ذكوراً وإناثاً ينتمون إلى أقوام وأمم شتى ودول مختلفة، فهم ليسوا شعباً ولا قومية عاشت فوق بقعة معينة.

لكنَّ التوظيف الاستعماري لفكرة إنشاء دولة خاصة باليهود لا علاقة لها البتة بتطور مفهوم الدولة الحديثة سواء منها الدولة القومية أو الدولة الوطنية على الإطلاق، فاليهودية ليست قومية لمجموعة من البشر تعيش على بقعة واحدة (إقليم) وليست شعباً على الإطلاق وإنَّما هي ديانة يزيد عمرها على ثلاثة آلاف سنة ينتسب إليها عدد محدود من البشر لا يتجاوزوا أربعة عشر مليونًا منتشرون بين شعوب وأمم مختلفة لا يربط بينهم سوى بعض المفاهيم الدينية، وهذه وحدها غير كافية للدعوة لقيام دولة تجمعهم فهم لا يرتبطون بإقليم محدد، ومن هنا فإنَّ عملية صناعة الدولة اليهودية هي عملية قسرية وإجبارية لا تتوافق ومبدأ وأسس وغايات الدول، فهي دولة يرتبط قيامها ونشأتها بغايات وأهداف حركة الاستعمار العابرة والآيلة إلى الزوال، ولذا تقوم على أسس منافية للأسس التي نشأت على أساسها الدول، فإنَّ مثل هذه الدولة ستكون لا محالة دولة عنصرية تفتقد فيها المساواة ولا يمكن أن تتحقق فيها إلَّا إذا تمكَّنت من إسقاط حقّ جميع الأفراد غير اليهود من حقّ المواطنة فيها وهذا ما يسعى إليه اليوم الكيان الاستعماري الصهيوني بإسقاط حقّ المواطنة في كيانه عن كل من هو غير يهودي، وفتح الباب على مصراعيه لكل من هو يهودي من أي مكان أن يهاجر إليه ويستوطن فيه ويتمتع بمواطنته ..!

هل ستتمكن هذه الصورة للدولة من تحقيق الأمن لمجتمعها بالتأكيد الجواب هو النفي لافتقادها العدالة الداخلية والعلاقات المتوازنة بين أفرادها وبين الدولة ومواطنيها، فهي ستبقى في حالة من القلق الأمني الذي لا يمكن أن ينتهي بل سيبقى ملازمًا لها طيلة فترة وجودها، فهنا ينتفي أول هدف من أهداف قيام الدول وهو تحقيق الأمن والأمان وإنهاء حالة الخوف لسكانها (لمواطنيها) .. ذلك ما أبقى عقدة الأمن لدى كيان الاستعمار الصهيوني في فلسطين عقدة أزلية إلى الأبد ولن تجد لها حلاً على الإطلاق.

إنَّ قيام دولة يهودية وإن بدا ظاهرها خدمة لمعتنقي اليهودية، إلّا أنَّه في حقيقة الأمر لا يعدو عن خدمة إستخدامية لا أكثر ولا أقل فاليهود ليسوا فيها غاية يجدوا ذاتهم بل هم أولى ضحايا قيام هذه الدولة، حيث جرى ويجري انتزاع واقتلاع اليهودي من مجتمعه الأصلي والذي ينتمي إليه ومن دولته التي يتمتع بجنسيتها ورعايتها، لينقل إلى مجتمع خليط من الأجناس والثقافات ويوضع في أتون صراع مع المواطنين الأصليين في الإقليم (فلسطين) التي تقوم هذه الدولة المزعومة عليه.

من هنا يفتقد قيام دولة يهودية على أرض فلسطين أي قيمة أخلاقية أو قانونية سوى القيمة الاستعمارية التوظيفية لمثل هذه الدولة والتي يمثل اليهودي فيها (الهدف والغاية والضحية الأولى) كما يمثل الفلسطيني الضحية الثانية لقيام هذه الدولة الاستعمارية.

إنَّ مصلحة اليهودي الذي غُرر به للهجرة إلى فلسطين والاستيطان بها من أجل أن يجد الأمن والسَّلام لنفسه ولأبنائه هو التخلي عن تلك الأساطير الموظفة لاستغلاله في هذه الأداة الإستخدامية المسماة دولة إسرائيل أو دولة يهود سواء، والإدراك أنَّ لا مستقبل له ولها، إلّا بالإذعان لحقائق الواقع والتاريخ، لحقائق الاجتماع والسياسة والقانون، إمَّا العودة إلى المجتمعات التي أستقدم منها وإمَّا الاندماج مع الشَّعب الفلسطيني المواطن الأصلي لهذا الإقليم، والتسليم بضرورة قيام كيان يحقق الأهداف السامية من نشأة الكيانات والدول الطبيعية وهي تحقيق الأمن والاستقرار للفرد وللجماعة بغض النظر عن المعتقد أو الجنس، وتحقيق التنمية والرفاه أيضاً للجميع في دولة تقوم العلاقة فيها على أساس المواطنة والمساواة دون تمييز سواء على أساس الجنس أو اللون أو المعتقد.

لذا نقول أنَّ قانون القومية اليهودي الذي سنه برلمان كيان الاستعمار الصهيوني في فلسطين يعطي المبرر الكامل للعمل على إسقاط هذا القانون وهذا الكيان الذي يتبنى مثل هذه الثقافة ويعبّر عنها بقوانين ستأخذ هذا الكيان إلى أتون صراع داخلي وخارجي يفتقد فيه القدرة على تحقيق الأمن والاستمرار والاندماج مع المحيط الذي وجد فيه.